في أحيان كثيرة، ننسى فـ «نرتاح»، ونتذكر فـ «نغتَمّ». لذلك، وفي مشوار العمر الخريفي، يصبح النسيان نعمة والذاكرة نقمة. فأيامنا مشطورة ما بين الفرح والترح، وفي كلا الحالين نذرف دموعاً وبسبع مراحل، لكن تلك الدموع تبقى مدفوعة بمشاعر مختلفة. هذا الأمر لا يتعلق بقلوب دون أخرى، فالقلب يحزن ويفرح ويتفاعل عند كل البشر لا فرق إلاَّ مَنْ كان قلبه كالحجارة أو أشد.
دعونا نفصِّل الفكرة أكثر، فنتناول الأمر عبر تطبيقه على العالم المتقدم حيث الثقافة الغربية كونها صاغت ناسها بطريقة ميكانيكية صرفة وخالية من المشاعر كما يعتقد البعض. وهو أمر قد لا يكون صحيحاً. دعونا نناقش ذلك. اليوم، وحين يتذكر أحفاد قتلى معركة جاتلاند والتي وقعت في بحر الشمال بين الأسطولين البريطاني والألماني فقد يُصابون بالكَمَد بلا نقاش ولو لدقائق: 6 آلاف بريطاني و2500 ألماني أحرَقَت أجسادهم المدافع، ثم أكلت جثثهم أسماك القرش.
قِسْ على ذلك في أحداث كثيرة أخرى وقعت في أرضهم: معركة تاننبرغ وجاليبولي ويولند ودوغر وشارلوا وفردان وكابوريتو ولييج والمارن وأراس وبوخارست وبوليمو وترانسيلفانيا ودرينا وحصار أنتويرب ومئات المعارك الأخرى التي طُحِنَت فيها عظام الغربيين. ماذا لو تذكر الأحفاد مشهد قتل أجدادهم، ثم جاء مَنْ يُكرِّر عليهم الذكرى، ويزيدها شرحاً في المعاناة التي تعرضوا لها على حصير تناقضاتهم، فإن الأكيد هو أن الذاكرة ستُكوَى وتُحمَّى بنبش مُحفِّزات ذلك من أحداث.
لو خرج للانجليز مَنْ يقول لهم: إن هؤلاء الألمان هم مَنْ دمَّر بلدكم، وقتل أجدادكم، وضحكوا وركلوا على جثثهم ثم رموها للكلاب، وإنهم السبب في ترمّل أمهاتكم وجعلكم تعيشون طفولتكم أيتاماً. ثم... ماذا لو جاء مَنْ يُحرِّض الفرنسيين عبر تذكيرهم: إنكم بعتم دماء سبعين ألفاً من أجدادكم في «فيران» حين قتلتهم الجيوش الألمانية وسحقتهم دون رحمة، واليوم حان وقت القصاص أو التعويض على أقل تقدير، ثم يُعيّرهم: ما هذه المشاعر الخرقاء يا فرنسيين؟! ألا توجد لديكم كرامة؟! في المحصلة فإن هذا الخطاب بالتأكيد هو خطاب استفزازي وتحريضي.
ألَم يُحمِّ هتلر وحزب العمال الاشتراكي الوطني مشاعر الألمان بأن كرامتهم قد أهِيْنت في قاعة فيرساي حين أذلّت ألمانيا بعد الحرب العالمية الأولى، وبات الألمان يُسبّحون باسم هتلر، الذي سيعيد لهم تلك الكرامة، وينتقم من أعدائهم وأعداء العِرق الآري؟! هذا الذي حصل، وبسببه استطاع النازيون أن يُجنِّدوا السواد الأعظم من الألمان خلف تلك المشاعر الملتهبة.
هذا الأمر ليست له علاقة بقرب التاريخ أو بُعده، بل علاقته هي في إلهاب المشاعر واستحضار صورتها كل حين، وإعادة إنتاج مأساتها بصورة درامية وفنية، إلى الحد الذي يجعل المأساة جديدة في كل مرة. هذا الأمر بات أكثر وضوحاً في عصرنا المتقدم، حيث وسائل الاتصال والإخراج والفن في أقصى درجات عطائها، وبالتالي هي قادرة على فِعْل ذلك بطريقة مثالية ومؤثرة في المتلقي.
إذاً، هناك حالة مزدوجة في الذاكرة ووسائل الاتصال. ولو قُدِّر أن تُنشَأ قنوات فضائية تُبَث على المجتمعات المنقسمة «تاريخياً» في أوروبا الشمالية والوسطى والجنوبية وتُوقِظ فيها ما كَمُنَ من تناقضات إثنية ودينية وسياسية وإعادة قَوْلَبَة ذلك التاريخ الأسوَد لربما أصبح الحال مختلفاً. نعم مختلف، ولتغيَّرت صورة أوروبا و «مجتمعاتها» المتقدمة إلى ساحة للقتال والذبح المتبادل.
ليس المجتمعات العامة فقط، بل حتى الخاصة منها، وأعني بها طبقة المثقفين ورجال الدين. تخيَّلوا لو أن تلك القنوات «الفتنوية» قامت بفتح ملفات أفعال المسيحية الوسيطية مع خصومها، أو عن مارسيل البادواني وجدال لوثر وكالفن وزوكيندن، أو التحفيز لأخذ ثأر مونتزر وإعدام ميشال سرفيه، وما دار في الكانتونات السويسرية المتقاتلة، وأعادت طرح كل ذلك ونبَّهت السويسريين المنقسمين أصلاً إلى أربع جهات فما الذي سيجري؟ حتماً سينبت الشر.
هذا الأمر يمكن تطبيقه في إيطاليا وفرنسا وألمانيا، وفي مناطق البلقان حيث حروب الصرب والمسلمين في التسعينيات وحروب كوسوفو.
إنها ذات النتيجة. إن الأوروبيين الذي حصلوا على وعاء ديني في حروب الشرق الأخيرة مع الإرهاب في العراق وسورية وليبيا وأفغانستان بدوا أشخاصاً غير مختلفين عن الإنسان الشرقي المكنوز بالتناقض الديني والإثني والطائفي.
أيضاً، الولايات المتحدة ذاتها مُعرَّضة هي الأخرى للانقسام والتفسُّخ لو أن الإعلام هناك سَمح لقنوات فضائية تتحدث بشكل تحريضي عن معاناة أجداد الجيل الحالي من الأميركيين الأفارقة، وحالات القتل والاغتصاب والسخرة التي جرت بحقهم، بل وحتى عن الحالات التي جرت ضد غير الملة البروتستانتية من الأيرلنديين واللاتينيين واليهود والبولنديين. وهو أمر ثبت بالتجربة.
أنا أضرب أمثلة من الغرب وكل العالم المتقدم لأثبت أن ما يجري في منطقتنا من تثوير للغرائز هو أمر خطير جداً. فإذا كانت المجتمعات المتقدمة مُعرَّضة لذلك الانقسام لو أنها سمحت للإعلام التحريضي أن ينشط فما بال منطقتنا، التي لاتزال فيه الدولة غير متأسِّسَة بشكل متين. لذلك نرى كيف أن القوانين الغربية تكون مُغلّظة جداً فيما مسائل الازدراء والكراهية والعنصرية سواء في الإعلام أو المناهج الدراسية، لأنهم لايزالون يخشون عودة الاحتراب الأهلي.
لو يُطلق العنان للجماعة الإنجيلية البروتستانتية المتطرفة التي تطلق على نفسها اسم الصوت المسيحي في بريطانيا فماذا كنا سنرى من أفعال؟! ولو تُرِكَ بول غولدينغ رئيس منظمة حماية الشوارع في بريطانيا فهل سنرى تسامحاً في الغرب؟! هذا الأمر ينطبق على جميع دول العالم المتقدم بما فيها الدول الاسكندينافية التي بدأ اليمين يتعاظم في أجزاء من أرضها.
أخلص إلى القول إن عِلَّة الوباء الطائفي الإرهابي المنتشر اليوم في دول العالمين العربي والإسلامي هو من الخطاب الإعلامي والتعليمي ولغة التحريض التي تنتزع الكتب التاريخية لترميها بين الأحضان وتستخرج منها معارك الأزمنة الغابرة لتقول للعرب والمسلمين: هيا إلى أخذ الثأر.
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 4713 - الأحد 02 أغسطس 2015م الموافق 17 شوال 1436هـ
الوباء عندنا متجذر
الوباء الطائفي متجذر وليس وليد اليوم او الحقب الماضية والمستعمر بدرك ذلك ودرس ذلك من اليوم الاول فهو الذي اخذ المخطوطات وعرف مكامن مجرى التاريخ الاسلامي وكيف انتشر ومن ثم اخذ يهندس في داخل قلعته عبر انتشار عناصره في داخل البلاط بعد اصبح الاسلام ملك عظوظ. فبعد ان قتلت الخلافة في علي وبنوه .. احتضر الاسلام كله .
يعطيك العافية
بس لو تبسطها شوي يكون أفود للجميع خف علينا
كلا يا أخي محمد
إن عِلَّة الوباء الطائفي الإرهابي ليس من الخطاب الإعلامي والتعليمي ولغة التحريض ، بل من العقائد المنتشرة بين العوام و التي لا يريد لها العلماء أن تنتهي!
إن عِلَّة الوباء الطائفي الإرهابي هو من العلماء الراضون أو الساكتون!