العدد 4711 - الجمعة 31 يوليو 2015م الموافق 15 شوال 1436هـ

«خرائط التيه» لبثينة العيسى: «الرواية بوصفها مرجعاً»

الكلمات أيضاً تتوه قبل أن تخرج، بعضها ينفلت من القلب ليصطدم بجدار صدرك، بعضها يجرح حلقك، ثمّة كلمات تدور مثل ساقية في رأسك وتصيبك بالصداع، أنا أبحث عنها الآن، الكلمات التي يمكن أن تصف كل ما مرّ به القارئ في رحلة تقفّي خرائط التيه، التيه الذي لا يوصل إلا لضياع آخر.

يبدو عبثياً أن تُلخص الأفكار والمواضيع والرؤى التي يتناولها هذا العمل، لكن لا بأس أن نشير لأبرزها، وهي قضية الاختطاف بشكلها العام واختطاف الأطفال بشكل خاص، تتفرع هذه القضية الرئيسية للاتجار بالبشر - استعباد - أوتجارة الأعضاء البشرية، وبطبيعة الحال لا تزدهر الجرائم إلا بالفساد. أيضاً تشير بثينة لقضية العزّاب في العمالة الوافدة ومدى خطرها ويمثل «نظام شجاع الدين» الشخصية النموذجية التي لا يردعها شيء حين يتعلق الأمر بالرغبة الفطرية.

في العمل إشارة خفيّة تمثلت بزيادة جرعة الإيمان للزوجة «سمية» في مقابل إلحاد تام من قبل زوجها «فيصل» حين بدأت الأقدار لعبتها في إخفاء ابنهما «مشاري»، الإشارة ذاتها في تعاطي المزارع «نظام شجاع الدين» المواظب على الفرائض في حين يمارس أبشع أنواع الرذائل مع الطفل. هذه الإشارة التي يجب التوقف أمامها طويلاً لندرك الاختلاف في فهم الله لدى البشر. «البعض منا يساعده الله، البعض الآخر.. عليه أن يساعد نفسه» (صفحة 259)

الزمن العدو...

تركز الرواية على الوقت والتواريخ أيضاً، التواريخ العربية التي لم أتصالح معها وأشعر بالضياع فيها، لكن حساب الأيام و التوقيت المستمر الذي لم يتوقف حتى النهاية كان له مفعوله في تقييم كل دقيقة تمر، تمر على أهل الصبي ورجال الأمن وعلى القارئ أيضاً، هذا التكنيك أعطى جرعة تشويق إضافية، بجعل الوقت عدو «الزمن ليس حليفاً لك. الزمن هو العدو» (صفحة 83)

المرجعية في العمل...

أعتقد أن بثينة كانت تتلمس المناطق وخوارطها قبل أن تعبّد الطريق الذي سيسلكه أهل الصبي والعصابة معاً، هذه السياحة في البلد الواحد - مكة، عسير، جازان، البحر الأحمر، محافظة رجال ألمع، أبها - هذا الطواف الذي يشعرك أنك لست في بلد واحد بل تتنقل من بلد لآخر تماماً كما في روايتي «عزازيل وظلمة يائيل».

الخروج من الكويت للسعودية وصولاً لسيناء، عملياً الكويت بجغرافيتها غائبة تقريباً، وتتركز الخرائط وما سأسميه «المرجعية» في السعودية وتزداد أكثر في سيناء، ثمّة كم كبير من المعلومات الموظفة بشكل جيد، كقارئ انخفض لدي مستوى التشويق قليلاً في سيناء، كون المعلومات كثيرة ومحشورة وممطمطة قليلاً، وأتفهم الجهد البالغ في إظهارها لخدمة القضية التي تتشعب وتتكشف في نهاية العمل، لكن هناك ما لا يمكن مواءمته مع الحدث ظهور جمعية الجيل الجديد ودخولها على الخط، كان واضحاً إقحامها لمزيد من المعلومات فقط، تطوّع فيصل للعمل معهم في ظرفه كان شاذاً. كل ذلك لا ينقص من قدر الاشتغال الحرفي والحقيقي لجعل الرواية ذات مرجعية واقعية بكل تضاريسها وخرائطها.

صوت الراوي العليم...

عليّ الاعتراف أن استخدام الراوي العليم فاجأني في هذا العمل وأعتبرها مغامرة فعلاً، كنت قد فقدت الكثير من الحماسة في هذا الأسلوب قبل أن يُعيد إليّ «خالد حسيني» حماستي وافتتاني بسرد الراوي العليم الذي أتقنها كتّاب الرواية الكلاسيكية الخالدة، حسناً، أعترف أنّي شممت رائحة «سقوط لم يسمع له دويّ» في هذا العمل، كيف؟ لا أدري، لكنني شممته، إن بثينة تغامر، والذين يغامرون لا يصلون بثياب نظيفة، - لا يعنيهم ذلك - بقدر ما يعنيهم أن يصلوا...

«أهلا بك في جحيم العدالة، في المكان الوحيد الذي يساوي بين البشر، في عالم الجريمة» (صفحة 100)

هنا صوت الراوي يخرج ليحدّث «فيصل»

«وصار وجودك كلّه أذن، وهي... عليها اللعنة، كانت تتحدث مثل إلهة»

هنا الراوي يخرج عن حياده ويشتم الخاطفة.

«يلزمه لون مختلف، لون العالم المتحضر،الذي يذهب إلى الجريمة بقفازات نظيفة، وربطة عنق.» (صفحة 191)

هذه العبارة على لسان رجل العصابة «جرجس» ولتأخذني العفاريت إن لم يكن لسان الراوي المثقف هو الذي يتحدث، لا يمكن لبيئة كما هي مرسومة لهذا المجرم أن يتحدث بكل هذه الأناقة واللغة الفارهة.

ما أريد أن أصل إليه أن اعتماد الراوي العليم ليس أمراً هيناً، يلزم الكثير من الحذر والحياد وضبط النفس والتعاطف، الراوي - العليم - هنا منحاز لقضيته الكبرى وهذا ليس من حقه بل من حق شخوصه وحسب.

عتبة الإهداء...

عودة لعتبة الإهداء، لا تجد إهداء في بداية الرواية وذلك على غير العادة، لا أدري لماذا يفرط شخص كبثينة بهذه العتبة؟

حين سألتها عن السبب وإن كان تجاوز هذه العتبة مقصوداً؟ أجابت بنعم، «أردت للعمل أن ينفصل عن شخصي تماماً، كل الرسائل التي قلتها في النص الإهداء لن يقول أكثر».

لا أدري إن كان حصر الإهداء في الجانب الشخصي والوقوع في مأزق «لمن سيكون الإهداء هذه المرة؟» أمر مجدى في حين أصبحت هذه العتبة كونية ويمكن فتح باب العالم بدلاً من نافذة البيت، ولا أدري إن كانت فكرة بأننا قلنا كل شيء داخل النص هي فكرة جيدة وسليمة أم تحتاج مراجعة.

في الأفق...

كمتتبع لأعمال الروائية المتميزة جداً بثية العيسى، أجد أن هذا العمل هو البداية الحقيقية للعمل كعمل بمعنى أنك تلحظ جيداً الأحداث والمرجعية المعتمدة عليه ويجدر بنا أن نشير لجهدها في إضافة العبارات الهندية والأفغانية، نعرف الآن أن بمقدور بثينة أن تطلب الماء «باني» وأن تطلب من أحد أن يأتي قربها «إدارآو». كاتبة بهذه المثابرة أتنبأ لها أن تخرج من شخصياتها الكويتية وتدهشنا بشخوص مختلفة من أماكن مختلفة، هذا ما أعنيه بالعمل كعمل احترافي، قادر على تخطي حدوده الجغرافية والبيئة.

العدد 4711 - الجمعة 31 يوليو 2015م الموافق 15 شوال 1436هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً