أدبيات وأخلاقيات كثير من المِهن في المجال الثقافي والتنويري والإبداعي في طريقها إلى الزوال من حيث صيغها وآلياتها وعلاقاتها؛ بدءاً بالنشر وليس انتهاء بالصحافة.
معظم دور النشر اليوم لا تنجو من التوحُّش تأثراً واعتناقاً للرأسمالية في جانبها الدميم. تجاوز الأمر التوحُّش الذي يكاد يدخل في علاقة توأمة مع الأصل، في سرقة وإعادة طباعة الإصدارات، حتى بعد إقرار قانون حماية الملكية الفكرية، والذي هو بالنسبة إلى دول لا علاقة لها بالكتاب وتخشى من أثره؛ مثل قانون السير الذي يمكن لعسكري أن يتجاوزه، ومثل الالتزام بوقت الدوام الذي أول من يتجاوزه من هو على رأس المؤسسة والوزارة، ويحرص على محاسبة «الفرَّاش» لتأخُّره في إعداد الشاي في الوقت المُحدَّد!
وفي الكلام على الصحافة، يكفي مروراً عابراً على الأداء في شراء الذمم الميتة والمتعفِّنة وهي تحسب «أنها تُحسِن صُنْعاً»!
ذلك الزوال، يكشف في جانب منه عن زوال قيم أساسية كانت تُشكِّل الصلابة والالتزام والحرص على المعرفة وتصديرها في فترة ازدهار الروح في هذا الجزء من العالم؛ جنباً مع جنب مع ازدهار التراث والقيم المادية المُكمِّلة أيضاً، في اتزان وضوابط ومواءمة.
انعكس كل ذلك على الأداء العام الذي لم يكن مُحدَّداً ومحصوراً في الفرد أو الجماعة؛ بل امتدَّ ليطول قطاعات عريضة من أمة «اقرأ» التي لا تقرأ أساساً.
أدَّت أوضاع وواقع عزل البشر عن الوصول إلى المعلومة والمعرفة دون تدخل و «مَنْتَجَة»، إلى تحويلهم لأدوات استقبال صمَّاء، ولا علاقة لهم باستجواب ومساءلة وتقييم ما يستقبلونه. لا قواعد ولا أجهزة استشعار ومنصَّات صدٍّ تعمل على اكتشاف وتحويل ما يمكن أن يكون إنجازاً ماثلاً على الأرض إلى أطلال. بعض تلك البلدان التي ينتمي إليها أولئك البشر تحوَّلت ذاتياً، وضمن ما تتوهم أنه يمثل مأمناً وحصانة لها من الغوغاء (في انتباهتهم ومعرفة خياراتهم)؛ فيما الغوغاء تتجسد وتبرز وتمثل من خلال محو وتغييب تلك الأدبيات والسهر على تسخيف كل محاولة للخروج على منظومة تأخذ بالإنسان إلى العدم تحت شعار إثبات وترسيخ وجوده. تحوَّلت بلدان إلى خطأ جغرافي، إذا استعرنا مقولة آرييل شارون، في حديثه عن لبنان، بعد اجتياح بيروت العام 1982.
هل تحدَّثنا عن أدبيات وأخلاقيات كثير من المهن في المجال الثقافي والتنويري والإبداعي هي في طريقها إلى الزوال من حيث صيغها وآلياتها وعلاقاتها؟ هل ثمة صيغ يمكن الاعتداد بها أساساً، في ظل مجهول مترسّخ؟ هل يمكن أن تُتاح لمجهول صيغة يمكن التعرُّف عليها؟ هل يمكن لهذا العبث في أسوأ درجاته أن يتحصَّل على أدبيات؟ هل يمكن لهذا الاستلاب والمصادرة والاحتواء وهو يمارس إلغاءه أن يحقق الأدنى مما تبقَّى من أخلاقيات؟
ألسنا نُمارس ترفاً في صيغة ما بالحديث عن انحسار أدبيات وأخلاقيات في الدائرة والفضاء الأخلاقي، بينما الفضاء العام أساساً لا شيء يدل عليه، قبل وبعد تلك الممارسة؟
كمن يُوْلي اهتماماً وتركيزاً وقلقاً على احتراق غابة تفصل بينه وبينها آلاف الأميال؛ فيما النار تجاوزت الفناء الخارجي لبيته وهي في طريقها لأكل الأخضر واليابس داخل بيته!
الأساس رخْو ومكشوف ومُخترق، وتُمهَّد له ظروف تضمن الوصول به إلى مراحل من التلاشي والعدم والرماد. ولا أدبيات وأخلاقيات بعد تلك المراحل؛ لأننا بصدد الحديث عن عدم تسبّب فيه الإنسان وليس شبحاً من خارج المنظومة الآدمية! ومحاولة تحويل الأوطان كلها، وليست بيروت وحدها، إلى خطأ جغرافي يجب تصحيحه.
بعد ذلك، فتِّشْ عمَّن يقفون وراء كل هذا التمهيد للخطأ الجغرافي، بعد الخطأ البشري والتاريخي!
إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"العدد 4711 - الجمعة 31 يوليو 2015م الموافق 15 شوال 1436هـ