بعد أكثر من نصف قرن على الصراع والقطيعة السياسية بين واشنطن وهافانا، جرى تطبيع للعلاقة بين البلدين، وأعيد فتح سفارتيهما، ورفع العلمان في عاصمتي البلدين.
لقد شهدت العلاقة بين أميركا وكوبا، توترات حادة، كادت أن تشعل حرباً نووية بين الاتحاد السوفياتي، أثناء حقبة نيكيتا خروتشوف، والرئيس جون كيندي في مطالع الستينيات من القرن الماضي، وعرفت الأزمة حينها بأزمة الصواريخ الكوبية.
لقد وصل الرئيس الكوبي فيدل كاسترو، ورفاقه، ومن ضمنهم شقيقه الرئيس الحالي راؤول كاسترو، والشخصية الأسطورية أرنستو تشي غيفارا، إلى السلطة بعد حرب عصابات، استمرت سنتين ضد نظام باتيستا الاستبدادي. وحظيت حركته في مراحلها الأولى بتعاطف أميركي، ذلك أن كاسترو من وجهة نظرهم، إنما يكافح ضد نظام استبدادي فاسد، بهدف نظام ديمقراطي على الطريقة الأميركية.
وحين انتصرت الثورة الكوبية العام 1959، وطرح كاسترو برنامجه السياسي، وخططه لإدارة البلاد، تكشف نهجه اليساري، وكانت تلك هي لحظة التغيير في سياسة أميركا تجاهه. وكانت تلك بداية توتر العلاقات الأمريكية الكوبية. وعملت وكالة الاستخبارات الأميركية بكل الوسائل على إسقاط النظام الثوري في كوبا، إما عبر محاولات اغتيال متكررة للرئيس الكوبي، أو عن طريق إحداث انقلاب أو غزو مباشر. وتعتبر محاولة إسقاط هذا النظام عن طريق تدريب وإعداد المعارضة الكوبية، من أجل غزو كوبا فيما عُرف لاحقا بـ «غزو خليج الخنازير»، أعلى ما بلغته وكالة الاستخبارات الأميركية من أعمال عدائية تجاه النظام الكوبي.
لقد أدت حادثة خليج الخنازير إلى لجوء كوبا إلى الاتحاد السوفياتي لطلب العون في مواجهة التهديدات الأميركية لكوبا. ولم يوفر الزعيم السوفياتي خروتشوف، الذي كان يخوض حرباً باردة ضد الولايات المتحدة وقتاً، واستجاب بسرعة للطلب الكوبي، فقد وجدها فرصةً أتته من السماء، لتحقيق توازن الجغرافيا معها، حيث كانت الولايات المتحدة تحتمي دائماً خلف المحيط، بينما كانت حدود الاتحاد السوفياتي مكشوفة للولايات المتحدة من كل الجهات.
قام خروتشوف، بنصب صواريخ عابرة للقارات، محملة برؤوس نووية في كوبا، التي لا تبعد سوى عدة كيلومترات عن ولاية ميامي، أعدت قواعد الصواريخ لتكون موجّهةً صوب القواعد العسكرية والمراكز الاستراتيجية الأخرى داخل الولايات المتحدة. حينذاك كان جون كنيدي قد وصل لسدة الرئاسة، وكان نصب الصواريخ الروسية هو أول تحدٍ استراتيجي كبير لدوره كرئيس للولايات المتحدة، وللأمن الأميركي.
أدى التصرف السوفياتي الخطير، بالنسبة للأمن الأميركي، إلى توجيه إنذار للحكومة السوفياتية بسحب تلك الصواريخ، أو التعرض لضربة نووية. وكان معنى ذلك نشوب حرب نووية بين أميركا والاتحاد السوفياتي، واندلاع حرب عالمية جديدة، لا تبقي ولا تذر.
قبل انتهاء مدة الإنذار، توصل الفريقان إلى اتفاق تاريخي تعهد الاتحاد السوفياتي بموجبه بسحب الصواريخ المحملة بالرؤوس النووية من كوبا، مقابل تعهد أميركا بالتوقف عن محاولاتها لإسقاط نظام الرئيس الكوبي فيدل كاسترو. وتنفس العالم الصعداء، لكن العلاقات بين كوبا وأميركا ظلت مقطوعةً حتى تحرك الرئيس باراك أوباما في الشهور الأخيرة، والذي نتج عنه تطبيع العلاقات بين البلدين.
تعود فكرة ترويض الأنظمة المعادية للولايات المتحدة، عن طريق الاختراق الاقتصادي والثقافي، إلى هنري كيسنجر، مستشار الرئيس نيكسون لشئون الأمن القومي ووزير خارجيته فيما بعد. فقد عاشت الولايات المتحدة في الحقبة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، حرباً باردة، ضد الاتحاد السوفياتي. وقد أضاف انتصار ثوار الصين العام 1949، في الحرب ضد حكومة شان كاي شيك، قوة إضافية، للمعسكر الشيوعي. وحين استعر الصراع العقائدي بين الصين والسوفيات، وجد الأميركيون في ذلك فرصةً سانحةً، لإضعاف الاتحاد السوفياتي.
ركزت أطروحة كيسنجر على أهمية تعميق شقة الخلاف بين الاتحاد السوفياتي والصين الشعبية، كخطوة مهمة لترجيح كفة الغرب في الحرب الباردة الدائرة ضد الشيوعية. وعندما وصل نيكسون للبيت الأبيض، وغدا كيسنجر مستشاراً له لشئون الأمن القومي،
اقترح أن تبدأ العلاقات مع الصين بإرسال فريق كرة طاولة التنس، لتعبيد طريق للعلاقات بين البلدين، وقد حدث ذلك بالفعل، وسافر كيسنجر للصين وقابل زعيمها التاريخي ماو تسي تونغ. وأعيدت العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، وتسلمت الصين الشعبية مقعدها الدائم في مجلس الأمن الدولي، بديلاً عن الصين الوطنية، ونشأت علاقات اقتصادية متينة بينهما، استمرت حتى اللحظة الراهنة.
كان لهذا التطور، إسقاطاته المباشرة في سقوط تركة نظام ماو تسي تونغ. وانتهجت الصين نظاماً اقتصادياً مختلفاً، زاوج بين الاقتصاد الحر في علاقاته بالخارج، وبين الاقتصاد الموجه بالداخل. وقد أدى هذا التحول إلى حدوث تغيرات في منظومة الثقافات الصينية، شملت إقبالاً كبيراً، على المنتجات الأميركية والمطاعم السريعة، وغدا للكوكاكولا بريقها الذي لا يضاهى بين المشروبات الخفيفة الأخرى، في الصين الشعبية. وهكذا تم الاختراق بالاقتصاد، وبريق الثقافة الوهاج، بدلاً عن الصواريخ والدبابات، والحروب الدامية مكلفة الثمن.
كرّر الأميركيون هذه التجربة في فيتنام، الدولة التي ألحقت هزيمة منكرة بالجيش الأميركي، بعد منازلة كلفت الأميركيين أكثر من خمسين ألف قتيل، وأضعافهم من الجرحى، عدا الخسائر الكبيرة في الأسلحة والمعدات، وتلطيخ سمعة الإدارة الأميركية.
لقد تمكن الأميركيون في فيتنام، عن طريق الاقتصاد، من تحقيق ما عجزوا عنه بالقوة العسكرية. وكما دخلت المنتوجات الأميركية في الصين وأسهمت في تغيير البنية الثقافية لهذا البلد الكبير، فإنها أدت الدور نفسه في فيتنام.
وقد تكرّرت هذه التجربة، من قبل الأميركيين في بلدان أخرى.
عندما ترشح أوباما لأول مرة لسدة الرئاسة، طرح الانسحاب العسكري من أفغانستان والعراق، كأولوية في برنامجه الانتخابي، وحقق ذلك بالفعل. وما حدث مؤخراً سواء تجاه كوبا أو تجاه إيران، هو تنفيذ لبرنامجه الانتخابي، لتحقيق حالة من الاسترخاء الدولي، وهو استعادة لرؤية كيسنجر ليحقق الاقتصاد ما عجزت عن تحقيقه السياسات الساخنة. وهذه الخطوات هي في النهاية، جزء من التنافس المرير بين روسيا الاتحادية، بقيادة قيصرها الجديد فلاديمير بوتين وبين أميركا.
وقد أكدت التجارب الماضية بوضوح أن التطبيع يتلازم دائماً باختراقات اقتصادية سياسية وثقافية.
إقرأ أيضا لـ "يوسف مكي "العدد 4710 - الخميس 30 يوليو 2015م الموافق 14 شوال 1436هـ