انتهى الجزء الثاني من المقال الذي حمل عنوان «تحديد الهوية بطرائق السرْد/ التذكُّر وحساب التكاليف»، بالقول، صارت النقلة الآن من عدم صعوبة كتابة تاريخ تم إنجازه، وممارسات تحقَّقت، إلى صعوبة وتحريم استحضار ذلك التاريخ، والتلويح به، وفي ذلك محاولة نفْيه في صورة أو أخرى؛ أو على الأقل التبرُّؤ منه.
لا مشكلة في التعامل مع التاريخ القريب. كلما ابتعد التاريخ كلما كانت فُرص تعدُّد تأويله، والتلاعب به أيضاً، وحجْبه أكثر وفرة وإمكانات. (ذلك لا يعني أن التاريخ عادةً ما يكون في منجاة من تلك الممارسة!) بذلك يستند رياض فوزي في جانب من مقاله الذي تم الاعتماد عليه في الحلقات الثلاث لهذا المقال، والذي حمل عنوان «ماذا لو»، على نابغة علم الاجتماع عبدالرحمن بن خلدون «تصعب الإجادة في الربَّانيات لأن معانيها مُتداولة لدى العامة». المُتداول يصبح أحياناً جزءاً من الوعي العام والبديهي.
التاريخ القريب هو الآخر مُتداول ضمن شرائح كبيرة، وأهمها الساسة! تعامل أولئك الساسة مع ذلك التاريخ يتم بطريقة تجعلهم في منأى عن أخطائهم (أو هكذا يتوهَّمون). هنا تتحدَّد الهويات في طريقة سرْد وتذكُّر ذلك التاريخ.
في طرائق السرْد والتذكُّر عمليات تحويل. ليس على مستوى المجموعة فحسب، كما ذهب رياض رمزي. يطال ذلك الفرد أيضاً. يمكن لـ «من نحن؟»، أن تحل محل «من أنا؟».
طرائق السرْد/ التذكُّر وارتباطه بالهوية ومساءلتها، تتيح فرصة لخلخلة ورجرجة الواقع القائم؛ وأحياناً بقاء الحال على ما هو عليه؛ وربما في وضعية أردأ وأسوأ. إلى ذلك يشير رمزي «طريقتا السرْد والتذكُّر تحولان المجموعة مِنْ: مَنْ نحن؟ إلى: ما رأينا نحن بأنفسنا. هل نحن أبطال؟ ضحايا؟ مذنبون؟ قساة؟». تلك طريقة تضع أصحابها أمام مواجهة مع أنفسهم. مع حقيقة وجودهم، وذلك هو الأهم.
في المحصلة النهائية. في الأثر الناجم عن كل ذلك، لا يمكن النظر أو التعامل مع السرْد والتذكُّر باعتباره عملية فردية. هو النافذة/ الأفق الخاص الذي تكتشف به مجموعة، وحتى الفرد، هويتها/ هويته. ثم السؤال/ الأسئلة التي لا تنقطع: ماذا بعد اكتشاف الهوية؟
«التذكُّر ليس عملية فردية؛ بل هو نشاط ثقافي. فنحن ننظر إلى أنفسنا من خلال ما نتذكَّره نحن عن أنفسنا (...)». ليس عملية فردية لارتباطها بعلاقات. أنت لا تتذكر حركتك وحدك في عالم تشغره وحدك. تلك العلاقات هي التي تجعل من التذكُّر نشاطاً ثقافياً يسهم في مراجعة وترسيخ أو تحديد موقف من تلك العلاقات. هي أسلوب وأداة نظر. في تناول رياض رمزي لكتاب السكرتير الخاص للأمير عبدالإله، خال ملك العراق فيصل الثاني، والوصي على العرش، عطا عبدالوهاب، والذي حمل «صورة قلمية»، واحد من مشاريع تنشيط عمل الذاكرة في فترة من فترات تاريخ العراق، التي من لوازمها أن تأتي مشفوعةً بحُزَم ضخمة من الخطايا والآثام. الكتاب شخصي جداً بحسب تعبير رمزي. لا دعوة فيه «إلى التيقن بشيء ما، وليس محاولة للإدلاء بأحكام. ببساطة، هو كتاب فيه القليل من العجرفة، والكثير من الإحساس الخالص».
تتوارى المعلومات والأحداث القديمة في سرْد عبدالوهاب. تبرز التفاصيل الصغيرة الجديدة التي تبدو هي الأحداث، إلا أن ذلك لن يحول ويحجب عن الذاكرة الأحداث القديمة. أن تكتب ما لم يره سواك. عن قرب تكتب مُجرَّداً ما استطعت من الممالآت والمداهنة. التقاط مثل تلك التفاصيل عن مضمون الشخص/ الحدث لا عناوينه، لا ينفصل عن تصحيح صورة عن التاريخ الذي قرَّ في الذاكرة، واستوى على السرْد.
«لا يعني ورود معلومات جديدة اختفاء السابقة؛ بل إن قبضة الثانية تتراخى مُفْسحةً المجال لشِجار بين ما يتهيَّأ لك أنك تراه الآن، وبين ما كنت تراه فعلاً في السابق».
الكتاب وبتعبير أخَّاذ يُحيلنا إلى هذه الصورة المُتخيَّلة «في الوقت الذي ترى فيه رتْلاً من الرجال يطرقعون بأوسمتهم ونياشينهم، هناك من يحاول، بدبّوس صغير، تثبيت صورة لرجل طاله النسيان». إذاً هي كتابة كي لا يطال النسيان شيئاً من الذاكرة. كتابة عن قرب لتاريخ يبدو قديماً بعض الشيء. حتى القديم بتنشيط الذاكرة له، وباستيعابه، لا يعود قديماً بالمعنى الذي يتم تقرير أن يركن جانباً.
«لَوْ» التي بدأها رمزي في مقالته، وتم التطرُّق إليها في الجزء الأول من هذا المقال، تلك التي أطلقها برتراند راسل، تنتهي بهذا المقال، ليس لأن أدوات الشرط بحضورها الصادم ستعمل على تحييد التاريخ أو إيقافه. هي هنا بمثابة تنشيط لطرائق التذكُّر والسرْد وفعلهما، تلك التي تعطي ملامح لهوية من يتذكَّرون.
«لو لم يتم إيقاف تقدُّم العرب شمالاً من إسبانيا لبلغوا مشارف بولندا والأرض المرتفعة، ثم اسكتلندا. لربما دخل أسطولهم نهر التيمز بدون مقاومة». وصولاً إلى قوله «عندها، كان سيُصبح القرآن مادةً إلزاميةً في جامعة أوكسفورد».
وعلينا أن نحترس هنا من الساسة. للساسة أدواتهم في الانعطاف بطرائق التذكُّر والسرْد أيضاً. الانعطاف بتفسير التاريخ، وتشييئه وفق الرغبات والمصالح. ذلك الانعطاف هو الذي يجعل التاريخ أداةً من أدوات ابتزاز الحاضر والتلاعب به!
«الاختلاف في تفسير التاريخ، إذا ما تلقَّفتْه السياسة، يتحوَّل إلى ما يشبه دوَّامات مائية تبتلع كل من يقترب منها، من دون بادرة تدل على قُرْب رجوعه إلى نقطة البداية؛ وحتى عندما يعود على شكْل نفاية طافية».
إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"العدد 4709 - الأربعاء 29 يوليو 2015م الموافق 13 شوال 1436هـ