يجاهد المزارع ابو سعد لكي يجد ما يسد به رمق عائلته المكونة من زوجة وثلاثة أطفال.
كل يوم لا يعرف إذا كان سيستطيع أن يدبر لهم وجبة رئيسية تسد جوعهم.
وأبو سعد هو واحد من مزارعين كثر في عراق اليوم والذين ضاقت بهم الحال وذاقوا شظف العيش بسبب انقطاع مورد رزقهم الرئيسي وهو الزراعة.
توقفت عقارب الساعة بالنسبة لابي سعد، وفقد الأمل في مستقبل أفضل، فكيف الخلاص من ضائقة مالية مطبقة لرجل مثقل بديون ذات فائدة مجحفة، اضطرته إلى بيع أرضه لكي يسد بضعة أقساط لتجنب حكم قضائي حتمي بسجنه لعجزه عن السداد.
فمزرعته القاحلة في منطقة المحمودية بالأطراف الجنوبية لبغداد لم تعد تنتج أي محصول من محاصيل الحبوب منذ أكثر من عام تقريبا، بعد أن سيطر التنظيم المتشدد الذي يسمي نفسه "الدولة الإسلامية" على حوالي ثلث مساحة العراق وقطع امدادات المياه من نهر الفرات في محافظة الأنبار تحديدا.
المشكلة الرئيسية التي يعاني منها مزارعو العراق هذه الأيام في أطراف العاصمة العراقية والتي كانت تستمد مياهها من نهر الفرات عبر قنوات ري وأنهر فرعية، هي انعدام الماء. فقد جفت قناة الري في مزرعة ابو سعد تماما، حتى تشققت الأرض جراء الجفاف، بعد أن كان منسوب المياه فيها يرتفع عن متر وأكثر من قاع القناة.
واليوم حولت أراض زراعية كثيرة إلى أراض قاحلة، ولم يعد الوصف الذي أطلقه العرب على أرض العراق بأنها "أرض السواد" في محله، فكان في الماضي تبدو الأرض للقادم من الصحراء بنخيلها الممتدة وحقولها الخضراء وكأنها خط أسود يمتد على رمال الصحراء الصفراء.
يقول ابو سعد: "لم عد لدينا خيار سوى حفر الآبار، لكن فوجئنا بتحذير من الجيولوجيين في وزارة الزراعة بعدم صلاحية المياه الجوفية المستخرجة من باطن الأرض بسبب ارتفاع نسبة الرصاص والكبريت فيها، مما يشكل خطرا ليس على المحاصيل فحسب ولكن علينا وعلى الماشية والدواجن أيضا."
ويضيف الرجل الذي اقترب من الخمسين، بينما كان يتكئ على عصا بعد أن أثرت جلطة دماغية على سيره، ومستخدما المصطلح الذي يطلق على التنظيم في العراق ودول عربية عدة: "كيف لنا أن نزرع من دون ماء. كل أنظمة الري توقفت أو قصفت في الفلوجة بسبب الحرب على داعش."
منذ عامين، أراد ابو سعد كغيره من المزارعين أن يتوسع في انتاج محاصيله من القمح والشعير والذرة، فقام بشراء أرض لزراعتها بالقمح، لكن لم يكن يدرك ما تخبئه الأيام له وللعراق "أشعر أنني أصبحت أسيرا لدين هائل طيلة ما تبقى من العمر"
ومضى للقول "رفض البنك التماسا باسقاط ديوني بسبب هذا الظرف القاهر الذي يمر به العراق، والآن المزرعة معروضة للبيع ولكن من الذي يرغب في شراء أرض يابسة يتطلب إعادة استصلاحها أموالا طائلة؟ يا ليتها كانت تثير شهية المستثمرين في قطاع البناء، ولكن لا أحد يبني هنا بقرار حكومي، بل أن الجرافات الحكومية شرعت منذ أيام في اقتلاع النخيل في المزارع المجاورة لدواع أمنية."
أجواء الحرب التي يعيشها العراق أثرت بشكل ملحوظ على قطاع الزراعة. يقول أبو سعد وغيره من المزراعين المتضررين في منطقة المحمودية إنهم لم يروا في حياتهم قط فترة أصعب كهذه الفترة التي عمها الكساد والبوار.
يقول أبو سعد "حياتنا باتت تنحصر في الهجمات الإرهابية والتفجيرات، الهرب والنزوح من مناطق القتال، وشح المواد الغذائية."
تقول الأمم المتحدة إن واحدا من بين أربعة عراقيين يحتاج إلى مساعدة إنسانية عاجلة وإن نصف السكان يحتاجون إلى طعام في بلد يعيش فيه ما يقرب من ربع المواطنين تحت خط الفقر، وهو ما يعادل دولارين يوميا للفرد، وهو ما دفع المنظمة الدولية إلى التحذير من مغبة لجوء عائلات يائسة إلى طلب المساعدة والإغاثة من التنظيم المتشدد في المناطق التي يسيطر عليها كمدينة الموصل في محافظة نينوى، والرمادي والفلوجة في الأنبار، كبرى محافظات العراق.
مشكلة المهجرين والنازحين بسبب الحرب أثقلت كاهل الحكومة التي لا تعرف كيف تدبر مساعدات عاجلة لأكثر من ثلاثة ملايين نازح بالإضافة إلى نحو 260 الف لاجئ سوري مسجلين لدى المفوضية العليا لشئوون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة.
يقر المسؤولون المعنيون في الحكومة العراقية بعجزهم عن الوفاء بمتطلبات المزارعين الأساسية كالأسمدة، والحبوب عالية الجودة، والمبيدات، بسبب أزمة الموازنة الحالية إثر الانخفاض الحاد في أسعار النفط عالميا والكلفة الباهظة للعمليات الحربية على مسلحي التنظيم المتشدد.
يقول وكيل وزراة الزراعة مهدي القيسي والذي قابلته في مكتبه بمقر الوزارة وسط بغداد، إن الأزمة تعود إلى العام الماضي (2014) عندما تأخر إقرار الموازنة وهو الذي أثر تباعا على حصة الوزارة.
ويقول القيسي "إن القطاع الزراعي أول المتأثرين من أزمة الموازنة، لأننا نتعامل مع كائن حي، نبات وحيوان، ومع مواسم زراعية، فكيف لنا أن ننفذ الخطة الصيفية أو الشتوية من دون أموال؟ لا نستطيع أن نوفر بذور الرتب العليا، والأسمدة المدعومة، وكذلك المبيدات التي كان أغلبها مجانية، بالإضافة إلى الثروة الحيوانية أيضا التي تحتاج إلى أعلاف، وأمصال ولقاحات بيطرية، لذا القطاع الزراعي أول المتأثرين من قلة الموارد المالية."
ويضيف المسئول الحكومي إن المزارع "يلقي باللوم سريعا علينا ويتهمنا بالفشل ولا يلم بأبعاد الأزمة المالية الخانقة، وهو محق لأنه يريد أن يزرع ويحصد، وهذا هو مورد رزقه الوحيد، لكن لم يكن الأمر بهذا السوء قبل هجمات داعش الإرهابية، عندما وصلنا إلى مرحلة الاكتفاء الذاتي عام 2013 من الحنطة والشعير، والمزارعون يدركون ذلك جيدا."
"وتسيطر داعش أيضا على أرآض خصبة في نينوى والأنبار، كانت تساهم بنسبة كبيرة في الانتاج المحلي الاستراتيجي من القمح والحنطة."
فقد العراق نحو 30 في المئة من انتاج القمح والشعير بسبب سيطرة تنظيم "الدولة الإسلامية" على أغلب أجزاء محافظتي نينوى والأنبار، شمال وغرب العراق، بحسب إحصاءات وزارة الزراعة.
فمحافظة نينوى وحدها كانت تمد السوق المحلية بنحو مليون طن من الحنطة والشعير، وهذا رقم كبير من أصل 4 ملايين طن، وهو ما كان يلبي احتياجات التموين الغذائي الحكومي المدعم.
وأدى شح المياه، وعدم استقرار الأمن وقطع بعض الطرق الرئيسية بسبب الحرب إلى رفع أسعار المواد والمستلزمات الزراعية بشكل خيالي، وهو ما أثقل كاهل أصحاب مزارع الدواجن على وجه خاص، فقد ارتفعت أسعار العلف، والأمصال واللقاحات البيطرية، بمعدل خمسين في المئة مقارنة بعام 2013.
وأدى توقف الانتاج الزراعي في المحمودية والمناطق المحيطة بها على أطراف بغداد إلى الاعتماد بشكل كبير على استيراد السلع الغذائية والفواكه والخضر من دول الجوار وعلى رأسها إيران.
يقول سعدون غازي، والذي كان يملك مزرعة دواجن قبل أن تتوقف كليا عن الانتاج، إن السوق العراقية "مغرقة" بالسلع الأجنبية بعد أن "فقدنا محاصيلنا، وأبقارنا، ودجاجنا". ويضيف أن الحالة الصعبة للمزراعين العراقيين دفعت العديد منهم إلى ترك الفلاحة والعمل كسائقين وعمال بناء، وحمالين.
أراد سعدون أن نرى بأنفسنا الوضع المأسوي الذي وصلت إليه مزرعته خلال العام الماضي. عندما دخلنا إلى حظيرة الدواجن، كنت خاوية تماما. يتحسر سعدون على الوضع الذي آلت إليه مزرعته: "كان المكان أشبه بخلية النحل، لا تستطيع أن تسير من كثرة الدواجن. كنا في حالة اكتفاء ذاتي من كل أنواع الدواجن. لا اتحدث عن هذه الحظيرة فقط، بل حظائر عدة راحت."