دون التقليل من أهمية معالجة مجمل العوامل السياسية والاقتصادية والاجتماعية والدينية المتشابكة التي أفضت إلى ولادة «داعش» فتغوّله البربري الوحشي ضد الحضارة الإنسانية، والذي لم تضاهه فيها أية جماعة دينية طوال تاريخنا العربي الإسلامي على مدى ألف وأربعمئة عام، إلا أنه يمكن القول إن ما حققته المملكة العربية السعودية خلال الأسابيع القليلة الماضية من إنجازات لافتة على الصعيدين الأمني والإعلامي لمكافحة «داعش» لهي جديرة بالتأمل والاقتداء، ولا ينبغي بأي حال من الأحوال التقليل من أهميتها ودلالاتها
هذه الإنجازات تتمثل فيما أعلنته الرياض وبشّرت به مواطنيها في ثاني أيام عيد الفطر السعيد، من حصاد ضربة أمنية كبرى أوقعت 431 داعشياً في قبضة الأمن. وقد تميّز هذا الإعلان بالشفافية في تحديد هوية الذين تم ضبطهم دون أي محاباة فئوية أو قبلية أو عائلية أو مناطقية، بما في ذلك نشر صورهم وأغلفة الكتب الوبائية المضللة لعقولهم، وكتب أخرى زُوّدوا بها من أجل تثقيفهم بها تثقيفاً مغلوطاً. (راجع الصحافة السعودية الصادرة في 19 يوليو / تموز الجارى). ومن أبرز هذه الكتب «شذى الصحابة»، «التحفة السنية»، «عقائد الشيعة الأثنى عشرية»، «ضوابط تكفير المعين عند شيخ الاسلام ابن تيمية»، و»رائحة الخبز» للروائي السوري مروان كجك.
وهذه الرواية كما جاء في مقدمتها، حسب صحيفة «الحياة» السعودية (21 يوليو/ تموز الجاري)، هي رواية واقعية «تحكي تغيّر الأحوال وتبدل الأخلاق بين الناس، إذ كثر الجواسيس وكتّاب التقارير، وانتشر زبانية القهر والطغيان في كل شبر من أرض الوطن، حتى لم يعد غير رائحة الخبز، مكاناً لالتقاء الشرفاء بعيداً عن أعين الجبناء». ومن مضمونها نستشف بأنها موجّهةٌ للمراهقين والشباب المحبطين لتحفيزهم على الهجرة إلى أرض «الخلافة الداعشية» في العراق والشام، أو التغرير بهم لارتكاب مذابح جماعية من خلال العمليات الانتحارية الانغماسية في صفوف المصلين الأبرياء في مساجدهم بالأحزمة الناسفة للوصول سريعاً لحور العين في الجنة إذا ما تعذّر عليهم حُلم الهجرة إلى (جنة الدولة الإسلامية) على الأرض، حيث بحبوحة الزنا بالرفيقات الداعشيات باسم «جهاد النكاح»، أو ممارسة الفحشاء اغتصاباً بسبايا «الكفار» من ذوي الديانات والطوائف المختلفة.
ومن هنا تتجلى أهمية الإنجاز الأمني السعودي في الوصول ليس فقط إلى الحلقة الداعشية الضيقة والتي كانت وراء التخطيط للتفجيرات الإرهابية تنفيذاً لأوامر قيادة الدولة الإسلامية في حسينية الدالوة ليلة العاشر من محرم الماضي، ومسجد الإمام علي بالقديح، ومسجد الإمام الحسين بالدمام وبحق رجال الأمن، بل ولكون هذه الضربة الاستباقية أنقذت أرواح آلاف من الأبرياء بإجهاض مشاريع إرهابية مماثلة كانت على وشك التنفيذ في مساجد أخرى من المنطقة الشرقية.
أما إعلامياً، وتحديداً على الصعيد الصحافي، فلعل ما يُحسب للصحافة السعودية امتلاكها كتيبةً من الأقلام المحلية الكبيرة تنتمي لاتجاهات وتيارات مختلفة، وتتمتع بهامش معقول من حرية الصحافة يُمكّنها من تشخيص وتحليل الأسباب الموضوعية والذاتية لبروز الظاهرة «الداعشية» وسُبل استئصالها من جذورها. وعلى رغم أن هذه الأقلام لا تخفي ولاءها للدولة لكنها بثقافتها وبأفكارها العقلانية الهادئة وأسلوبها الكتابي الرصين، فضلاً عن حرصها على عدم حصر اهتماماتها في هذه المسألة من هموم الوطن والأمة بل وتناول قضايا محلية وعربية متنوعة، فإنك لا تملك إلا احترامها، حتى لو اختلفت معها بهذا القدر أو ذاك في المواقف والآراء.
على العكس من ذلك، فإنك لا تملك إلا السأم والضجر وأنت تعاين أقلاماً في صحف خليجية أدمنت على لغة الردح الطائفي اليومي بما فيه من سفاسف الكلام والقذف المكرر والكلام المعاد مضموناً مئات ومئات المرات. وهي أقلامٌ مازالت على هذه الحال، كما نعلم، لأكثر من أربع سنوات من انفجار ثورات الربيع العربي. وصدق من قال بأنها تقتات في ارتزاقها الصحافي على هذا الردح وليس لديها سواه، فلو تعافت دولها ومجتمعاتها وتحققت إصلاحات حقيقية تطالب به شعوبها لسرعان ما جفت أقلامها وانتهت إلى الإفلاس.
أخيراً لا ينبغي إغفال الدلالات الفائقة الأهمية أمنياً وسياسياً وأخلاقياً واجتماعياً للبادرة الشجاعة التي أقدمت عائلة الإرهابي فهد القباع، الذي ارتكب مذبحة جماعية بتفجير نفسه في صفوف المصلين بمسجد الصادق بالكويت نهار يوم جمعة رمضاني، وذلك بإعلانها تبرؤها منه ومن جريمته، ورفعها أحرّ التعازي للكويت قيادةً وشعباً ولعوائل الشهداء المصلّين، وخصوصاً التصريح الصحافي الجسور لوالد الجاني، بأنه لو يعلم بأن ابنه الداعشي يبيت النيّة لارتكاب المذبحة المأسوية بحق المصلين لقتله قبل شروعه في تنفيذ جريمته.
ولئن كنا نعلم جيداً ما ينتاب أمهات وآباء وذوي الدواعش الخليجيين من أحاسيس مختلطة بين الأسى والامتعاض الشديدين، لوقوع فلذات أكبادهم في فخ تلك العصابة الشريرة التي جندتهم، وبين الخوف عليهم من مصير مجهول بوقوعهم في قبضة الأمن أو سقوطهم قتلى في معارك «داعش» الحربية الخارجية، أو – وهو الأسوأ- ارتكابهم مذابح جماعية من خلال عمليات انتحارية بحق آلاف الأبرياء في المساجد وخلافها، وخصوصاً أن من بين عائلاتهم من تحمل ألقاباً عشائرية وقبلية كبيرة، بل وبعضها مقرّبة لبعض العوائل الحاكمة في الخليج، فإنها إذا ما تحلت بالتسامي من أجل أوطانها وشعوبها فوق مشاعر الأمومة والأبوة أو القرابة الأنانية الضيقة، وأعلنوا تبرؤهم من أبنائهم مقتدين ببادرة عائلة القباع السعودية الشجاعة، وقبل أن يقع الفأس في الرأس، سواء العائلات التي تعلم بالتحاق أبنائهم بـ»داعش»، أو من تراودها الشكوك بالتحاقهم به نظراً لغيابهم الطويل أو انقطاع تواصلهم المديد عن أهاليهم، فإنهم بذلك إنما يمحون مقدّماً، العار الذي كان سيلطخ سمعة عوائلهم أبد الآبدين.
وتحدونا ثقة كبيرة بأنه إذا ما ضغطت دول مجلس التعاون المبتلاة بالوباء الداعشي إعلامياً وأمنياً بكل قوة على ذوي «الداعشيين»، فسيكون ذلك من الأسلحة القوية في يدها لمحاصرة «داعش» والتسريع بهزيمتها وإنقاذ البشرية من شرورها، وحماية الأوطان من تهديداتها، فيما قد ينالون العسر في الدنيا والآخرة إذا ما تستروا عليهم وكظموا الشهادة.
إقرأ أيضا لـ "رضي السماك"العدد 4707 - الإثنين 27 يوليو 2015م الموافق 11 شوال 1436هـ