انتهى الجزء الأول من هذا المقال الذي كان بعنوان «أدوات الشرط والصالح من الاستعمال في التاريخ»، واستند في جوانب منه إلى مقال رياض رمزي «ماذا لو»؟ ونشر في فصلية «أبواب»، في عددها الثاني والثلاثين لخريف العام 2002، بالإشارة إلى أن هنالك مسالك غير متوقعة في التاريخ، نستقبلها في لحظة ضمير يتصدَّى لكتابته. ذلك الجزء المسكوت عنه. ذلك الذي تحرص جماعات، فئات، أطياف، على أن يكون متوارياً وقيد المجهول والعدم. وفي ذلك تعبير عن أزمة وجودية في واقع الأمر.
أو لأنه وقع ولا تريد جماعات الالتفات إلى وقوعه. جعله في دائرة الإهمال والنسيان. ذلك الإهمال والنسيان هو جانب من شبه الفصام، خصوصاً إذا كان في حركة وأحداث منه تكشف عن عوار الحاضر، وتلك الطاقة التي تكاد لا تنتهي في إعادة الاعتبار لذلك العوار والأخطاء، بإعادة الإنتاج الذي لا يتوقَّف!
بالعودة إلى ذلك التاريخ الذي كان من الممكن أن يحدث ولكنه لم يحدث، يتتبَّع رمزي من خلال الـ «لَوْ»، منعطفات في ذلك التاريخ. رجال أيضاً أسهموا في صنعه، بغضِّ النظر عن المضيء أو المظلم مما صنعوه وأنجزوه وارتكبوه. «ماذا لو أصيب جنكيز خان بالطاعون ومات وهو طفل؟ ماذا لو فقد تيمورلنك توازنه قرب بئر قريبة وسقط فيها»؟ تقود مثل تلك الأسئلة/ التساؤلات إلى ما سيكون عليه المسار المعرفي في العالم وقتها واليوم، من جهة، لو لم يأت الأحفاد، ويقوموا بارتكاب ما ارتكبوه من مجازر طالت العلوم والمعارف، جنباً إلى جنب مع المجازر التي ارتكبت ضد البشر في غزو بغداد وسقوطها. حدث إرباك وفراغ معرفي هائل في العالم وقتها!
يرى رمزي أن مثل تلك التساؤلات هي بمثابة طريقة لحساب التكاليف و»تُعرف في الاقتصاد باسم كلفة الفرصة البديلة»، هذا النوع من الدراسات يهتم بـ»دراسة تكاليف ما حدث فعلاً، ودراسة طرق أداء الشعوب في ظروف مغايرة، وتطوير الأداء الشعبي، وتحفيز طاقات عدم القبول بالوضع الراهن، وعدم التسليم بأفكار كالقدر، الحتميات، والظروف».
يعود رياض رمزي إلى جانب من رسائل كارل ماركس إلى صديقه كوغلمان. ليست عودة إلى نص تاريخي فحسب. الأمر في صلب تناول التاريخ أيضاً، وإن ظل من زاوية أو رؤية فلسفية، ضمن اشتغالات ماركس. في بعض تلك الرسائل اعتراف واضح بالمصادفات والحوادث العارضة. يقف على بعض تلك التجليات في قوله «لو لم يكن للصُدَف أي دور في التاريخ، لأصبح هذا التاريخ ذا طبيعة مُغرقة في الصوفية».
ويرى رمزي أن ماركس ينشد من إدخال الصُدَف، للإفلات من إكراهات الواقع الفعلي إلى المفترض؛ كي يقوم بتوسيع حدود المعنى، على الضدِّ من هيغل الذي أوصل «فكرة ثبات الماضي والحاضر والمستقبل إلى مداها النهائي».
ذلك أمر. أمر آخر، هل تتحدَّد هوية أي مجموعة بشرية، من خلال طريقة تذكُّرها وسردها للماضي الخاص بها؟ تساؤل/ سؤال هو في ثنايا مقال رمزي، الذي ينطلق من الأسئلة/ التساؤلات، وهو ما يمنحه فضاء للتحرك، بعيداً عن الجاهز من الإجابات. بأداة شرط واحدة أو أكثر، تمنحه أيضاً قدرة على عدم الانصياع لما كُتب من ذلك التاريخ. ويمكن ملاحظة ذلك بشكل لا يقبل التأويل. تتشكل هويات في طريقة التذكر تلك. استدعاء ما يُراد استدعاؤه، واستبعاد ما يجب استبعاده!
استئناس جزء من العرب اليوم بجانب مُرعب من التاريخ. التاريخ المريض في ممارساته، ربما يتجلّى بالسكوت عليه، وعدم الاقتراب منه والخوض فيه ومساءلته؛ وفي الوقت نفسه، إعادة ممارسته، في صور ومشاهد ومضامين تتجاوز ربما ما حدث بأضعاف مضاعفة من حيث فظاعاته وبؤسه وعاره.
ذلك جانب. جانب آخر، هنالك حرص على ألا يقترب الآخرون مما يشبه الاستفزاز بالاستدعاء والتذكير بذلك التاريخ، وهو هنا في حدود الشاهد على الامتداد لما حصل في حاضر نشهد. مثل المواقف تلك تتجاوز بمراحل ما أطلقنا عليه «الفصام شبه الجماعي» لأمة، مجموعة، أو طيف!
ذلك الجزء من التاريخ الذي يُوظَّف له حرص مُضاعف، على عدم اقتراب الآخر منه، لا ينفيه في نهاية الأمر. هو فقط مُدَّخَر ليدخل في دائرة النسيان! لكن كيف يتحقق له ذلك بتواتر الشواهد، وتفعيل الممارسة في ما نشهد حاضراً؟
هنالك لَعِبٌ على محاولات ربط الأدنى من تلك الوقائع التاريخية التي حدثت، ويُراد تثبيت عدم حدوثها في دفاع شرس، بما يدور في راهن العرب والمسلمين اليوم. وفي ذلك انعزال وانكفاء تام ليس فقط على تاريخ كُتِب وَوُثِّق؛ بل حتى انكفاء على حاضر تفضح وتسجِّل وتوثِّق فيه الأجهزة الرقمية وغير الرقمية كل ما يحدث، وتُحصي أنفاس القَتَلَة وأعداد الضحايا في الوقت نفسه!
وضمن هذه المساحة، لسنا بحاجةٍ إلى أداة شرْط كتلك التي لجأ إليها برتراند راسل، وفصَّلها رياض رمزي في مقاربته، أمام ما يشبه الجرأة والوقاحة على ما هو أكبر من النفي (ليس بالضرورة نفياً بالنص، وإنما بردود الفعل الناتجة عن التعاطي مع سيْل من الحقائق، لا يريد البعض نفْض الغبار عنها)!
صارت النقلة الآن من عدم صعوبة كتابة تاريخ تم إنجازه، وممارسات تحققت، إلى صعوبة وتحريم استحضار ذلك التاريخ، والتلويح به، وفي ذلك محاولة نفْيه في صورة أو أخرى.
إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"العدد 4706 - الأحد 26 يوليو 2015م الموافق 10 شوال 1436هـ
تسلم جعفر موضوع جميل
بارك الله فيك
ايييه
ما بلش نتكلم في الماضي...دا الماضي دا كان كل جراح
احسنت...بدأت اتابع مقالاتك وانهل ما ابداعاتك