العدد 4704 - الجمعة 24 يوليو 2015م الموافق 08 شوال 1436هـ

برنامج «أوبرا» للتأمّل أم الرواق في السوق؟

رحلة شخصية في المدارس التأملية (1)

الولايات المتحدة الأميركية - فاطمة علي 

24 يوليو 2015

في القرن الثالث قبل الميلاد كانت مجموعة من الرجال تلتقي في أحد أروقة أثينا القديمة المطلة على السوق لتناقش كيف يمكن للإنسان أن يحقق السعادة. أصبح هذا الرواق المفتوح مقراً لمدرستهم الفلسفية الجديدة وأطلق عليهم «الرواقيون». اليوم، أي بعد ما يزيد على ألفيّ سنة تستخدم هذه الفلسفة في تدريب عناصر الجيش الأميركي، وخصوصاً أؤلئك الذين يقاتلون في البؤر المشتعلة، على الصمود والثبات في الشدائد.

تقول نانسي شيرمان مؤلفة كتاب «المحاربون الرواقيون» الذي يناقش الدور النفسي المعاصر للرواقية في شخصية المحارب الأميركي إن «الرواقية فلسفة أنارت الطريق وأعدت رجالنا ونساءنا للحرب على الدوام».

كيف يمكن لفلسفة أن تصبح أداة مهمة في التدريب العسكري؟ الأمر ليس معقداً. على الأقل على المستوى النظري؛ أما على المستوى العملي فالإنسان لا يمكن أن يصبح «رواقياً» إلا إذا كان محارباً فعلاً. «الإنسان ينتصر على العالم عندما ينتصر على نفسه»، هكذا يؤمن «زينون» الرواقي، مؤسس هذا اللون من الفلسفة.

توفر «الرواقية» إجابات وممارسات تساعد المرء على تدريب نفسه لمواجهة أي شيء حتى الموت وتطوير مهارات الثبات وضبط النفس وتعلم كيفية تخطي الأفكار والمشاعر الهدامة. لا تسيئوا فهم هذه الفلسفة، إنها ليست بهذا السوء، فهي تستخدم أيضاً في العلاج النفسي لحالات الاكتئاب، الأرق، القلق المزمن، الإدمان، إضافة إلى الاضطرابات النفسية المزمنة أو الناتجة عن حوادث أو صدمات.

تعرفت على الرواقية من خلال كتاب يطلق عليه «تأملات» لماركوس أوريليوس، في سياق بحث شخصي لاكتشاف فوائد التأمل الذي صار موجة وكثرت أنواعه ومدارسه وخبراؤه وأخذ يحتل حيزاً على صفحات الإنترنت. صادف حينها أن المذيعة المشهورة أوبرا وينفري كانت تقدم برنامجاً مجانياً للتأمل مع أهم الخبراء في هذا المجال وهو ديباك جوبرا صاحب «مركز جوبرا للطب البديل». تقوم فكرة هذا البرنامج على الاستماع لتسجيل صوتي يتناول موضوعاً مختلفاً في التأمل كل يوم لمدة ثلث ساعة تقريباً.

لم أتمكن من التقاط القيم الإيجابية في هذا اللون من التأمل رغم مساعيّ الحثيثة؛ فإما أصحو بعد فترة لأكتشف بأنني غفوت وأنا أتأمل وسط الموسيقى والتأثيرات الصوتية المهدئة. أو لأنني إذا حدث وحافظت على صحوي خلال جلسة الاستماع كنت أتعمد تخطي أهم جزء من الجلسة الذي يطلق عليه «مانترا» والذي يتطلب التركيز على فكرة إيجابية معينة وتكرارها بصمت طيلة مدة التأمل. لم تكن تقنعني فكرة تكرار عبارة بلغة أخرى لا أفهمها كاللغة السنكريستية التي يقتضيها برنامج أوبرا للتأمل. ولا أعرف كيف يُتوقع مني مثلاً حفظ عبارة صعبة كهذه «سارفيشام شانتير بافاتو» التي تعني أتمنى السلام لكل المخلوقات، والشعور بمعناها إن كانت ليست بلغتي.

ليس هذا فحسب؛ بل وجدت أنه من الصعب جداً تصديق جدوى تكرار هذه العبارات لأن الشرح الذي يبررها يعِد بنتائج أقرب للخيال. مثلاً قل «راسا هام» التي تعني أنا جوهر الحياة لتصلك بالطاقة المحورية والإحساس بالحياة. هكذا بكل بساطة!

أصبح من الواضح هنا أن التأمل بهذه الطريقة لم يثبت فاعليته. قادني ذلك لاكتشاف كتاب «تأملات». فقد وجدت فيه إجابات رائعة لأسئلتنا عن الحياة ومواجهة الأزمات والسعي نحو السعادة. مؤلف الكتاب هو إمبراطور الروم ماركوس أوريليوس، آخر فلاسفة الاتجاه الرواقي. كان الأخير يحمل معه مذكرة يسجل فيها تأملاته حول الحياة؛ حتى خلال حملاته العسكرية. وهي اليوم تعد واحدة من روائع التراث الإنساني الفلسفي التي ما يزال يُحتفى بها. فما هي أفكار هذه الفلسفة؟ فيما يلي أبرز عشر أفكار مؤثرة في هذه الفلسفة.

لكي تكون سعيداً يجب أن تكون خلوقاً

يعتقد الرواقيون أن الغاية من الحياة هي السعادة، وما سيجعل الإنسان يحياً حياة متزنة هو سعيه الدائم للتحلي بالأخلاق الفاضلة وتجسيدها في أفعاله. إن هناك أربعة أخلاق جوهرية يجب تنميتها لدى الإنسان للتحلي بالتميز الأخلاقي والسلوكي وهي: الشجاعة، الحكمة، ضبط النفس والعدالة. لذلك اعتقد الرواقيون بأن الفيلسوف هو الشخص الذي يحيا حياته كمحارب يسعى دائماً ليتغلب على أهوائه ومخاوفه ليكون شخصاً أفضل؛ وليس الشخص الذي يعرف «أرسطو» وأفكاره.

الأفعال أهم من التنظير والشعارات

ينظر الرواقيون للفلسفة كونها أسلوب حياة وليست أفكاراً على ورق فقط. لقد كرهوا النظريات الفلسفية المعقدة والكتابات المنمقة للمفكرين الذين سبقوهم وركزوا على الجانب العملي وطبقوه على أنفسهم. ربما تكون مدرستهم الوحيدة آنذاك التي تأسست في رواق «ممر عام» مطل على السوق. كان الفلاسفة يناقشون أفكارهم وهم يتمشون بين الناس وينقلون أفكارهم بأسلوب سلس. لقد نجحوا في التأثير على الشباب والعبيد والحكام في ذلك الوقت ما جعل أفكارهم تنتشر في أنحاء أثينا وروما بما يناهز الخمسة قرون.

التركيز على ما يمكن التحكم به

اعتقد الرواقيون بأنه لكي يحيا الإنسان حياة متزنة يجب عليه أن ينظر حوله ويفرق بين ما يمكن أن يسيطر عليه وبين ما لا يمكنه فيركز على ما يمكنه القيام به. آمن الرواقيون بالقضاء والقدر وبأن الأحداث والمجريات التي تحدث هي جزء من طبيعة الكون ولا شيء يحدث بدون سبب؛ لذلك على الإنسان التفريق بين ما يجب تقبله والصبر عليه وما يمكن التحكم به وتغييره. ولكي يتمكن الشخص من الوصول لهذا المستوى من الإدراك عليه أن يحث الخطى في طلب العلم وفهم طبيعة الكون والفيزياء والتاريخ والمنطق والعلوم المختلفة التي تكسبه الحكمة والمعرفة لمواجهة الحياة ومصاعبها وعدم الاستغراب مما يجري حوله. إن العديد مما يحدث من كوارث طبيعية أو بشرية حدثت في الماضي وستتكرر في المستقبل.

العدد 4704 - الجمعة 24 يوليو 2015م الموافق 08 شوال 1436هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً