الذين يلجأون إلى التاريخ المأزوم في جوانب منه، وهم يعيشون حاضراً مأزوماً، إنما يبحثون عن مزيد من تأزيم الحاضر. ذلك اللجوء يمكن ملاحظة أنه يذهب في اتجاهين، ونادراً ما يتفرَّع عنهما اتجاه ثالث. الأول هو الذهاب إليه باعتبارهم صانعين للمضيء والمهم فيه! والثاني أنهم يذهبون إليه، وعلى أحدهم أن يحمل عنهم الجانب الفاضح والدموي والمخزي منه، وتبرز هنا موهبة التبرير من جهة، والتبرُّؤ من جهة أخرى؛ فيما الاتجاه الثالث، ذلك الذي يتم الذهاب إليه لتلمُّس جوانب منه، والوقوف على الخلل وأسباب التأزيم فيه وصولاً إلى الحاضر الذي لم يشُذ عن المقدمات كي نفاجأ بالنتائج. وتلك أمة الاتجاه الثالث الذي نفتقد.
كأن الدرس لم يصل في كثير من الرُقَع الجغرافية التي لديها ذلك الخوف المرَضي من تاريخ ترى أنها لم تصنعه ولا ذنب لها في ما اقتُرف فيه من فظاعات وتجاوزات وأخطاء فادحة - والأمر كذلك واقعاً لو تم تعلُّم الدرس، وحدث التصحيح - وفي الوقت نفسه ترى أنها صاحبة ذلك التاريخ في جانبه المشرق والمضيء، حصْراً! ولا يحتاج المرء إلى قراءة ما وراء الاستحضار الذي يعبِّر عن «نوستالجيا»، شعوب منفصلة عن واقعها.
هل نحن أمام فصام شبه جماعي يمكن للأمم أن تعاني منه؟ يحدث ذلك كثيراً. علَّ إضاءة على مقال مهم تكشف جانباً مما ذهبنا إليه.
ربما تكون العودة إلى المقال الذي كتبه رياض رمزي، ونشر في فصلية «أبواب»، (العدد الثاني والثلاثين/ خريف 2002)، تحت عنوان «ماذا لو»؟ ضرورة لفهم جانب من النظر إلى التاريخ، وما يرتبط به من طرائق تذكُّر وسرْد، تلك التي بدأها بإحدى إلماعات وإشراقات شاعر الانجليزية الأول وليام شكسبير «مملكة حُسِم مصيرها عندما ضاعت حدْوَة الفَرَس»، وصولاً إلى مبتغى المقولة «لو لم تفقد المملكة المسمار، لما حدث ما حدث»!
مغزى ذلك أنه «ليست كل الأفكار التي تبتدئ بأداة الشرط عديمة المعنى». في كثير من الأحيان، يكمن وراء ذلك استدراج مُحبَّب، يرمي إلى تمحيص وإعادة نظر. هكذا يريد أن يوصلنا رمزي إلى حقيقة لا أحد يريد أن يتوقف عند إدمان المضادِّ لها. لا نريد أن نصدِّق ما يكشفنا، ويعرِّينا. نريد أن نصدِّق ما يجعلنا في هيئة الكاملين والقدِّيسين الذين يراقبون أخطاء غيرهم. التاريخ من ضمن تلك الأخطاء التي ورثناها، ولكن في الوقت نفسه يكمن دورنا في مراقبة أخطاء الآخرين، ليس من خلال تاريخهم فحسب، بل من خلال حاضرهم أيضاً، نحن الذين ننام ونصحو على تلك الأخطاء!
هي نفسها «لَوْ» برتراند راسل «لو لم يضرب الجفاف آسيا الوسطى، لما هاجرت القبائل التركية إلى موطنها الحالي، لما سقطت القسطنطينية، لما حدث عصر النهضة، لما جاء كوبرنيكوس وغاليليو، ولما حدثت الثورة الصناعية، لم يكن أحد ليفكِّر، قبل راسل، بأن احتباس المطر في آسيا الوسطى قبل أكثر من سبعة قرون كان سبباً لإحداث أعظم إنجاز بشري في مكان، ونشر التخلُّف في مكان آخر».
هل يوجد ماضٍ واحد له تاريخ واحد؟ ذلك ما يراه رمزي ويبرز هنا في صورة تساؤل. في ذلك جانب من الفصام شبه الجماعي للأمم بتعاملها مع التاريخ بانتقائية فجَّة، لا يفهم منه إلا الهروب المكشوف على واقع أشد بؤساً من جانب من ذلك التاريخ.
مثل ذلك الماضي الواحد، هو ما تريده جماعة، أمة، طيْف بينه مشتركات. ما يُلائم ويُجمِّل هو ما يُراد رؤيته والاعتزاز به، ومن ثم الاعتراف به. ما يناقضه يتم العمل على تثبيت قناعات تلك الجماعة، الأمة، الطيْف على نفيه، وعدم الاعتراف به. هو في التاريخ هناك. «ماذا لو» تبرز هنا أيضاً. ماذا لو لم نكن أبناء لأولئك الذين صنعوا ذلك الجانب مما يُراد نفيه والتبرؤ منه؟ هل كنا سنحتاج إلى هذا الانتقاء، والتعرُّض إلى مثل شبْه الفصام هذا، والمراوحة في الواقع المأزوم نفسه؟
المهم في ذلك الماضي/ التاريخ، هو الجانب الذي يمكن لأي جماعة، أمة، طيْف أن يستثمره، ويجعله صالحاً للاستعمال؛ حتى ذلك الجانب الذي لا يراد له أن يبرز، ويكون عرضة للهروب والتبرؤ منه. كيف؟ الواقع المأزوم لا يأتي إلا بفعل حزمة ضخمة من الأخطاء. تلك الأخطاء ليست بالضرورة على ارتباط بذلك التاريخ في جانبه المباشر، ولكنها أخطاء بالدرجة الأولى، ومع مرور الوقت ستصبح تاريخاً يتم النوم عليه، وبعد زمن سيدخل ضمن حزمة الأخطاء التي يُراد التبرؤ منها، وأحد العوامل التي تعيدنا لممارسة الفصام نفسه!
هنالك مسالك غير متوقعة في التاريخ، نستقبلها في لحظة ضمير يتصدَّى لكتابته. ذلك الجزء المسكوت عنه. ذلك الذي تحرص جماعات، فئات، أطياف، أن يكون متوارياً وقيد المجهول والعدم.
يعمِّق رمزي تلك المساحة من التاريخ، «تاريخ الذي كان من الممكن أن يحدث ولكنه احتجب عن الوقوع». أو لأنه وقع ولا تريد جماعاتٌ الالتفات إلى وقوعه. جعله في دائرة الإهمال والنسيان. ذلك الإهمال والنسيان هو جانب من شبه الفصام الذي أشرنا إليه، وخصوصاً إذا كان في حركة وأحداث منه تكشف عوار الحاضر، بإعادة إنتاج الكوارث، وتلك الطاقة التي تكاد لا تنتهي في إعادة الاعتبار لذلك العوار والأخطاء!
إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"العدد 4702 - الأربعاء 22 يوليو 2015م الموافق 06 شوال 1436هـ