حتى ليلة العيد غصّ هاتفي بـ 340 رسالة وصلتني عن طريق «الواتس أب» من أصدقاء ومعارف من البحرين ودول الخليج ودول عربية، تهنّيء بالعيد أو ترد على تهنئة بعثتها سابقاً.
من بين هذه الرسائل التي وصلتني، وهي عبارة عن جُمل تهنئة أو أبيات شعر أو صورة تحمل روح المناسبة، كان أكثر من 300 رسالة هي رسائل جاهزة أعيد إرسالها، والبعض نسي أن يمحو اسم المرسل السابق فبعثها كما هي، مذيّلةً باسم غير اسمه، من دون أن ينتبه لذلك. البقية القليلة فقط من الرسائل كانت مكتوبةً من قِبل المرسل، بعضها بكلمات بسيطة تفي بغرض التهنئة ومذيّلة باسم كاتبها ومرسلها، والبعض ممن يتميّزون بقدرة على التعبير الجميل، كُتبت رسالته بأسلوب جميل مختصر وأخّاذ وبها أمنيات تستحق الوقوف بها، وتأمّلها يشعرك بأنها أمنيات صادقة من القلب كتبت لك وحدك.
جميعنا يسعدنا أن نحصل على ما نشعر أنه صُمِّم، بشكل أو بآخر، من أجلنا. وفطنت لذلك إحدى شركات إنتاج أحذية الشتاء من صوف النعاج الاسترالية، ونجحت في خلق مكانة خاصة لأحذيتها على الرغم من أنها لا تمت للموضة من قريب أو بعيد. الشركة ترفق كل زوج من الأحذية ببطاقة صغيرة، كتب عليها أنها صنعت يدوياً خصيصاً لمشتريها باهتمام ومحبة. هذه الرسالة ليست رسالةً شخصيةً من الصانع إلى المشتري، لكنها رسالة رمزية تُشعر المشتري بأن هناك اهتماماً أكثر من مجرد عملية بيع وشراء تتم بينهما، عند اختياره شراء حذائه من الشركة.
وعودة للمعايدات التي لا يمكن التقليل من شأن الاهتمام بإرسالها في أيٍّ من صورها، فإن المستنسَخ منها يشبه تسجيل حضور في مناسبة من المناسبات الكثيرة التي تمر بنا، هذا الحضور لا ينقل أي شعور خاص من المُرسِل إلى المُستقبِل بعكس تلك الكلمات الخاصة وإن كانت قليلة وبسيطة، فهي تحمل اهتمام مُرسلها الذي خصّص بضع دقائق من وقته ليكتبها بكلماته وأمنياته النابعة منه شخصياً، ويرسلها إلى كل الأعزاء عليه. هذا السلوك الخاطف من شأنه أن يحقق السعادة للمُرسِل بذات المقدار لدى المتلقي، والتعبير عن المشاعر هو شكل من أشكال الحرية التي تحفّز صاحبها للمزيد والأعمق من التعبير، ما يجعله محاطاً بالإيجابية في وسطه الاجتماعي.
المعايدات تحمل، في جزء منها، مشاعر من يتعنّى لإرسالها، لكن شأنها شأن الكثير من أوجه التعبير الإنساني التي لم تصمد كثيراَ أمام فيض البدائل الإلكترونية التي تنهال علينا، فأصبح هناك، الكترونياً، من يفكّر نيابة عنا ويكتب أيضاً رسالة نيابة عنا ويعرضها في شكل برّاق، تغري شيئاً فشيئاً أن نتخذها بديلاً معلباً لمشاعرنا وتعبيراتنا.
وعلى الرغم من أن تكنولوجيا الاتصال طُوّرت لتساعدنا على إنجاز ما كنا تقوم به في وقت أقصر، وبالتالي يصبح لدينا فائض من الوقت لإنجاز أمورنا بتأنٍ وإتقانٍ وإبداع أكثر، إلا أنها جلبت معها أنماطاً جديدة من سلوك التواصل الذي لا يخلو من الفائدة بالطبع، لكنه يستهلك الكثير من وقتنا وقد نمّى فينا، دون أن نشعر، كسلاً في التعبير الخاص عن مشاعرنا.
نمتنُّ للتكنولوجيا التي قرّبت المسافات، وجعلت تعبير العولمة المجازي بأن العالم أصبح قرية، أكثر قرباً من الواقع، فأصبح بإمكاننا أن نلقي تحية الصباح على أي شخص في أي مكان على الكرة الأرضية، تماماً كما نفعل مع من يشاركنا الغرفة أو المكتب في حيز جغرافي لا يتجاوز خطوات قليلة، لكن هذا الامتنان يجرحه الفعل العكسي للتكنولوجيا نفسها في خلق مساحات وهمية شاسعة بين الأفراد في البيت وفي المكتب وفي كل مكان، فالجميع صار مهووساً بالتواصل الافتراضي، ليس بالضرورة لأمور مهمة كما أريد لهذه التكنولوجيا أن تكون، وإنما لتمرير الأخبار والرسائل المعلبة والأفلام والأدعية. وبقدر ما قرّبت التكنولوجيا البعيد فهي كذلك أبعدت القريب، وفقد القرب الفيزيائي أهميته، وتفوّق عليه القرب الافتراضي في صنع الحميمية في العلاقات.
إقرأ أيضا لـ "هناء بوحجي "العدد 4701 - الثلثاء 21 يوليو 2015م الموافق 05 شوال 1436هـ
المهم
المهم اني اهنئ ولاانسى احد فأكون حاضر