تحل اليوم ذكرى ولادة الكاتب الأميركي أرنست همنغواي، التي توافق الـ21 من تموز (يوليو). وننشر، لهذه المناسبة، نص الكلمة التي ألقاها صاحب «العجوز والبحر» في حفلة تسلمه جائزة نوبل:
«... ولأني لا أملك موهبة تدبيج الكلمات، ومهارة الخطابة أو سطوة البلاغة، فاسمحوا لي أن أشكر المديرين الكرام في جائزة نوبل على منحي هذه الجائزة. لا يمكن لأي كاتب قرأ للكتّاب العظماء اللذين لم يحظوا بجائزة نوبل إلا أن يقبل هذه الجائزة بتواضع كبير. لا داعي لأن أسرد أسماءهم بالترتيب، فكل شخص هنا بإمكانه أن يرتبهم وفق معرفته ووفق ضميره أيضاً. من المستحيل أن أطلب من سفير بلادي قراءة كلمة كتبتُ فيها كل ما في قلبي. الأشياء التي يكتبها الكاتب قد لا تكون قابلة للإدراك في لحظتها، حتى وإن كان محظوظاً في ذلك بعض الأحيان، لكنها ستتضح أكثر مع مرور الزمن، ومن خلال هذه الكتابة ومن خلال مقدار الكيمياء التي يتمتع بها الكاتب، سيُكتب له البقاء أو النسيان (سيكتب له أن يبقى أو أن يذهب طي النسيان).
الكتابة، في أجمل حالاتها، هي حياة في العزلة. حياة الجماعة تلطّف وحدة الكاتب، لكنها لا تمنحه شيئاً لتطوير أدواته. يتماهى مع الحياة العلنية التي يريق من خلالها وحدته، لكنه في المقابل يعرّض فنَّه للتلف، لأنه حين يكتب لن يكتب إلا وحده، وعليه إن كان كاتباً جيداً أن يواجه الخلود أو التجرّد من الخلود، في كل يوم من أيام حياته.
كل كِتاب هو بداية جديدة للكاتب الحقّ، يبذل فيه أقصى ما يملك للوصول إلى شيء يستحيل الحصول عليه. فعليه دائماً أن يحاول الوصول إلى شيء لم يصل إليه أحد من قبل، أو شيء حاول الآخرون الوصول إليه وفشلوا. ثم وفي أحيانٍ قليلة وبحظٍ عظيم قد ينجح. كم هي سهلة كتابة الأدب إن كان جلّ ما علينا فعله هو أن نعيد كتابة شيء أبدع آخرون في كتابته، وكتبناه نحن بطريقة مختلفة لا أكثر. ذلك لأن لدينا كتَّاباً عظماء في الماضي، بحيث لم تعد هناك مساحة لأي كاتب لكي يطأ الماضي من دون أن يضطره هؤلاء الكتَّاب إلى الخروج بعيداً إلى حيث لا أحد هناك ليساعده. لقد تحدثتُ كثيراً جداً مقارنة بما يتوجّب على الكاتب، فالكاتب لا يتحدث بما يود قوله، بل يكتبه. مرة أخرى شكراً لكم».
الموت بعد الظهر
عند كتابة رواية، على الكاتب أن يخلق أناساً حقيقيين، أناساً لا شخصيات، فالشخصية تشويه مبالغ فيه. لن تكون هناك شخصيات بطولية في روايته، لكن إن استطاع الكاتب أن ينفخ الروح في هؤلاء الناس فسيكون من الممكن أن يظل كتابه وحدة متماسكة، كياناً كاملاً، أو ما نسميه رواية. لو أراد الراوي لهؤلاء الناس أن يتحدثوا عن أرباب الفن، أو الموسيقى، أو اللوحات الحديثة، أو الرسائل، أو علم الطبيعة، فعليهم أن يتحدثوا عن ذلك في الرواية. إن لم ترد تلك المواضيع على ألسنتهم في الرواية، وأصرّ الكاتب على أنهم يعرفون عن تلك المواضيع، فهو كاتبٌ ملفِّق. أما إن تحدث هو نفسه عن هؤلاء الناس ليرينا أنه يعرف الكثير عنهم، فهو كاتبٌ يتباهى أمام القَّراء لا أكثر. مهما كانت جمله وتشبيهاته جيدة فلا قيمة لها إلا إن كانت ضرورية ولا بديل عنها، عدا ذلك فسيفسد عمله بصوت الـ«أنا». بالنسبة للكاتب فإن وضع التأملات الفكرية، التي يمكنه بيعها بسعر زهيد كسعر المقالات، على ألسنة شخصيات مركبّة ومختلقة تبجّل أكثر من الناس العاديين في الرواية، هو أمر مبرر - ربما - لكنه لا يصنع أدباً. الناس في الرواية ليسوا مجرد شخصيات تُشكَّل بإتقان، بل أناسٌ يخرجون من تجارب مرّ بها الكاتب واستوعبها جيداً، يخرجون من معرفته، من رأسه، من قلبه، ومن كل شيء فيه. إن كان يملك الحظ والجدّية وتمكّن من إخراجهم بشكل كامل من داخله، فسيأتون بكل أبعادهم وسيبقون طويلاً على قيد الحياة.