من يقرأ مدونات كثير من الشباب والشابات العرب على «الفيسبوك» و «تويتر»، وفي مدوناتهم الخاصة، يكاد لا يصدق علو سقف حرية التعبير التي منحوها لأنفسهم خارج الأطر والقيود والممنوعات والمحاذير التي تحكم عملية النشر في المطبوعات الخاضعة للسلطات الرسمية سواءً كانت حكومية أو مستقلة. جرأة لافتة تبلغ حد التهور، وثمة من يتساءل: لماذا يعرض هؤلاء النشطاء أنفسهم لكل تلك المخاطر في بلدان تنعدم فيها الحريات الحقيقية ويسود الخوف ويتعاظم البطش؟ هل هم متهورون فعلاً أم أن التعبير عن الرأي بحرية ومسئولية هو طبع أصيل في الإنسان كما جاء في سردية شرعة حقوق الإنسان «يولد جميع الناس أحراراً متساوين في الكرامة والحقوق وقد وهبوا عقلاً وضميراً وعليهم أن يعامل بعضهم بعضاً بروح الإخاء»... بالتالي فإن الخوف والحذر من ممارسة هذه الحرية ليست سوى صفات غير أصلية وغير حقيقية بل مكتسبة، تأسست وتراكمت بفعل خبرات الإنسان العربي مع القمع والقوانين الزاجرة؟ وعلى هذا الأساس تتجلى محنة التدوين الالكتروني في كل الأرض العربية وتطرح سؤالاً آخر: ترى هرب المدوّنين العرب من صحف السلطة وإعلام السلطة إلى المنابر الأكثر أمنا أم الأسهل اصطياداً؟ تناقلت الأنباء يوم الخميس الماضي حكاية المدوّن التونسي الشاب الذي عثر عليه ميتاً في أحد أحياء الجزائر، وكان قد سبق لهذا المدوّن أن أعلن على صفحته على «الفيسبوك»
أنه تلقى تهديدات بالقتل بسبب نشاطه الالكتروني. وفي كل بلد عربي تجد قصة مثيرة ومأساوية لمدوّن أو مدوّنة، ما أن «تجوجل» اسمه حتى تجد نفسك غارقاً في سيل من المعلومات الصحيحة والمفبركة والمضللة.
يطرح المدون نفسه كناشط حر مستقل معبّر عن رأيه، بينما تصنفه السلطة كجاسوس أو محرّض أو جندي في الطابور الخامس المتآمر على الوطن، فالسلطات العربية التي تفننت على مدى عقود في شراء الولاءات والذمم والأقلام كما تشير برقيات «ويكيليكس»، جنّدت هي الأخرى جيوشاً من المغرّدين والمخبرين الذين يتقاضون الأجور المجزية نظير جلوسهم أمام الانترنت والتصدّي لكل معلومة وإغراق الجماهير بالغث دون السمين، لخلق رأي عام مغاير للحقيقة تماماً.
من سيحمي هؤلاء المدوّنين والنشطاء الالكترونيين المغامرين الذين تتابع أجهزة الاستخبارات الإعلامية كل سكناتهم وكلماتهم وحروفهم وتلتقطهم الواحد تلو الآخر، وترمي بهم في المعتقلات والسجون بتهم التخريب والتحريض؟ تشير تقارير «منظمة العفو الدولية» و «هيومن رايتس ووتش» و «مراسلون بلا حدود»، إلى أن محنة المدونين العرب تظل هي الأكبر منذ انطلاق الربيع العربي إلى يومنا هذا، ذلك أن العالم العربي الذي كان أشد بقاع الأرض عتمةً وانغلاقاً في مجال الحريات الإعلامية المرئية والمسموعة والمكتوبة، دخل إلى عصر الانترنت متسلحاً بالقوانين الصارمة نفسها، وبجيوش المخبرين الأمنيين، فحصار الكلمة واحد، سواءً كان على جدار أو صحيفة أو فضاء الكتروني.
قد كان العالم العربي فقيراً، صحافياً وديمقراطياً وحرياتٍ أيضاً، واستحق لقب «عدو الانترنت» مؤخراً بسبب القيود والرسوم العالية على الصحف أو المواقع والمدوّنات الالكترونية واعتقال المدونين والمغردين ونشطاء الانترنت. والنظم العربية الشمولية التي اعتادت السيطرة على كل شيء، لم يكن بوسعها ترك فضاء الانترنت خارج دائرة نفوذها، لكن أنّى لها أن تحيط بهذا العالم اللامحدود واللامتناهي؟ وكم ستستنزف من أموال وجهود لإخضاعه وتطويعه؟
إقرأ أيضا لـ "عصمت الموسوي"العدد 4700 - الإثنين 20 يوليو 2015م الموافق 04 شوال 1436هـ