ننشغل كثيراً بمآسي منطقتنا العربية والإسلامية، وننسى أن في مناطق أخرى من العالم تجري مآسي مماثلة أيضاً. مناطق قد لا نسمع إلاَّ باسمها عبر أكلاتها المميَّزة أو أغانيها التي تحمل طابعاً شعبياً تُطعَّم الروايات الأدبية والبوليسية بأسمائها. من تلك المناطق تلك الواقعة في أقصى جنوب أميركا الشمالية حيث المكسيك، أو كما تُسمَّى رسمياً: «الولايات المتحدة المكسيكية»، كونها جمهورية فيدرالية على غرار جارتها الشمالية: الولايات المتحدة الأميركية.
قبل أيام، حملت وكالات الأنباء العالمية خبر هروب «أخطر تجار المخدِّرات» في المكسيك ليلاً، المدعو خواكين جوسمان (61 عاماً) والملقَّب بـ «الشابو» من سجن ألتيبلانو المُحصَّن «عبر نفق بطول ميل امتد من زنزانته إلى مبنى مهجور». نعم... بطول ميل! وقد يتحدث البعض أن عملية الهروب ربما تمّت بتواطؤ من حُرَّاس السجن، لكنهم يعجزون عن الإجابة عندما لا يجدون مبرراً لكيفية تغلُّب جوسمان على ذبذبات جهاز المراقبة المزروع في جسده من قِبَل المحققين.
الرئيس المكسيكي إنريكي بينا نييتو وصف عملية الهروب بأنها «إهانة للمكسيك» ووعد بإجراء تحقيق. في العام 2001 هرب جوسمان من زنزانة شديدة الحراسة أيضاً عندما تسلل إلى عربة غسيل. وظل مطلق السراح حتى فبراير/ شباط من العام 2014. حينها قال الرئيس: إنْ هَرَبَ الشابو مرةً ثانيةً فإن ذلك «لن يغتفر». المشكلة أن الشابو هرب من جديد وبفانتازيا أكثر جدلاً.
عندما اعتقل جوسمان أول مرة، وضع أطباء نفسيون في السجن وصفاً دقيقاً له: «مجرم محترف وماكر متلاعب وجذاب وشديد الخطورة ويجيد فن الإقناع». هي عناوين كفيلة بأن تجعله خصماً حقيقياً للدولة المكسيكية، بحيث يستطيع أن يزيد من «نسبة القتل 10 أضعاف» في مدينة مكسيكية كما جاء دون أن يحدَّ من ذلك أيّ جهاز حكومي.
مشكلة المكسيك لا تكمن في احتلال أو في خلاف على النظام السياسي والحريات، ولا في جماعات دينية متطرفة، بل الموضوع متعلق بـ»عصابات تهريب المخدِّرات» التي أفضت تالياً إلى تغلغل الفساد في أجهزة الدولة، إلى الحدّ الذي يُحفَر فيه نفق بطول ميل في زنزانة أخطر رجل في أميركا الشمالية، ورغم ضجيج آلات الحفر ومئات الأطنان من الرمال المستخرجة من النفق دون أن يسمع أو يرى أحد ذلك من الضباط والسَّجَّانين المُختارين والمكلَّفين بسجنه! إنه أمر فظيع.
عندما بدأتُ البحث عن مشكلة المخدِّرات في المكسيك، وقفتُ على تفاصيل غريبة قد تكون خيالاً بالنسبة للبعض، لكنها بالنسبة للمكسيكيين واقع مرير يعيشونه كل يوم، الذين فقدوا 16 ألف قتيل في بحر 3 سنوات فقط، وأيضاً للحكومة المكسيكية التي تواجه جماعات تملك من السلاح ما يُوازي سلاح الجيش المكسيكي من الأسلحة الرشاشة إلى المدافع المخترِقة للدروع والأبنية، وهو ما يعني معركة حقيقية.
لُبُّ الصراع هناك هو حول تهريب المخدِّرات إلى الولايات المتحدة الأميركية بشكل أساسي، ثم إلى المدمنين في الداخل. أهم نوعين من أنواع المخدِّرات هما الكوكايين والقُنَّب، اللذان يُهرَّب منهما آلاف الأطنان إلى الأراضي الأميركية عبر الحدود البرية التي يزيد طولها عن الـ 3000 كيلومتر. فالمكسيك وعبر هكتارات الزراعة الاستوائية هي من أكبر منتجي الماريوانا في العالم.
عملية تهريب المخدِّرات تلك ولَّدت تنافساً محتدماً ما بين جماعات التهريب التي تصل عائداتها السنوية جرّاء ذلك إلى 8 مليارات دولار، 60 في المئة منها تأتي من تهريب الماريوانا.
إذاً، نحن نتحدث عن نظام مصالح قذر يلعب في الأراضي المكسيكية. وإذا ما علمنا أن صافي أرباح تهريب المخدِّرات الإجمالية هي 15 مليار دولار سنوياً في بلد يعيش 40 في المئة من سكانه تحت خط الفقر، فإن الصورة تصبح قاتمة، حيث تستقطب تلك الجماعات كثيراً من أتباعها جرَّاء تلك المعادلة الطردية، وبالتالي تنشأ في البلد مشاكل اجتماعية وأمنية وصحية لا حصر لها.
ليس ذلك فحسب، بل إن ذلك الأمر أدى لأن يُنخَر الاقتصاد المكسيكي، ويتلبَّسه أخطبوط الفساد بشكلٍ لا مثيل له. فخلال فترة ماضية أثبت أحد التحقيقات أن «78 في المئة من الإنفاق العام للاقتصاد الرسمي في المكسيك قد تمّ اختراقه من قبل الجريمة المنظمة»، حيث يتم تبييض الأموال التي تُجنَى من بيع المخدِّرات «ضمن الاقتصاد المحلي والبنية التحتية»، وبالتالي تغلغل ذلك اجتماعياً.
لم يعد غريباً في المكسيك أن يُعتقل رئيس فرع الانتربول وأحد مستشاري الحكومة الكبار بتهمة تلقيهم «رشاوى من عصابات المخدِّرات»، أو أن يُلقى القبض على رئيس غرفة عمليات في الشرطة وهو يهمّ بتهريب طنِّ من المخدِّرات إلى الولايات المتحدة، بل وتتعطل 98 في المئة من الأحكام القضائية، كل ذلك بسبب الفساد المستشري في كل مكان.
قالت محققة صحافية لأحد البرامج الاستقصائية أن خواكين جوسمان قد تزوّج من ملكة جمال مكسيكية في الثامنة عشرة من العمر عندما كان في الثانية والخمسين من عمره، وأن «بعض المسئولين المكسيكيين» حضروا تلك الحفلة الصاخبة! فهم يُجارون رجلاً لديه ثروة تصل إلى ألف مليون دولار!
أختم بسؤالٍ أعتبره مركزياً ومهماً قد يُناسب طرحه قضايا المكسيك وقضايا أخرى في منطقتنا أيضاً. فالولايات المتحدة رصدت مبلغ 5 ملايين دولار للقبض على الشابو منذ زمن، ومنحت المكسيك مليار دولار لمكافحة المخدِّرات، لكن المفاجأة هي أن 90 في المئة من الأسلحة التي تستخدمها عصابات تهريب المخدِّرات المكسيكية تأتيها من الولايات المتحدة الأميركية!
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 4699 - الأحد 19 يوليو 2015م الموافق 03 شوال 1436هـ
تقول العرب ..
حدث العاقل بما لا يعقل فإن صدق فلا عقل له...بلد عصابات ومافيا وجهاز شرطة وامن ينخرهما الفساد الي العضل لا يستغرب هروب كل المساجين وليس سجينا واحدا فقط
افهم يافهيم
نحن الولاية الامريكية نحارب الاٍرهاب ومن جه اخر تدعم الاٍرهاب بختصار شيد
وشكراً