ليس هناك مدينةٌ في البحرين تعيش حالةً من الغربة والاغتراب مثل العاصمة المنامة، لذلك يجب أن يُحترم صوتها حين تبدأ بالبوح للتعبير عن وجودها.
فالمنامة التي هجرها أغلب أهلها باتجاه الضواحي الجديدة والقرى، لم يبق فيها إلا أقلية من أبنائها لا يتجاوزون العشرين في المئة، وأصبحت أحياؤها تزدحم بالجاليات الأجنبية. هذه الظاهرة اليومية تكون أكثر وضوحاً أيام العطل الأسبوعية والإجازات. وحين دخلت أحياءها عند العاشرة ليلة العيد، كان أغلب من تراهم من الآسيويين، حتى المساجد والمآتم كانت قليلة الرواد، وبعضها كان مطفأ الأنوار.
الروح تعود إلى المنامة في مناسبتين فقط: شهر رمضان الكريم حيث يقود الحنينُ المنامي إلى جذوره؛ وموسم عاشوراء حيث تعود لاحتضان أهلها وزوّارها من المناطق الأخرى، في أكبر حشد شعبي سنوي.
أحد مشاكل العاصمة الزحام الشديد وعدم توفر مواقف للسيارات، فتضطر بسبب ذلك للعودة أحياناً من حيث أتيت، والتخلي عن حاجتك. وهي أحد الأسباب الطاردة لأهاليها بحثاً عن فضاء أوسع للسكن، فهي المدينة الوحيدة التي ليس لها متسع للتمدد والاتساع.
في هذا السياق، تأتي مشاريع الإعلان عن الوجود التي تتبناها مؤسساتها الأهلية، بين حين وآخر، وآخرها إصدار «ملامح» في نسخته الخامسة «ليلة العمر»، وهو مشروعٌ أقرب للأرشيف التوثيقي المصوّر لجوانب من حياة المنامة وأهلها. الإصدار الجديد يبدأ بصورتَيْ عقد زواج من أرشيف السيد علي كمال الدين (عضو هيئة الاتحاد الوطني) يعودان للعام 1940، ويلفتك أنه لا شروط محددة للزوجة، فالبساطة كانت سيدة المجتمع في تلك العقود، قبل أن تخرج المرأة للعمل وتنال حظها الوافر من التعليم وتحصل على بعض حقوقها، وتستقل اقتصادياً ويكون لها شروط تمليها في العقود.
الإصدار أغلبه صور لمناسبات زفاف شخصية، عدا بعض الصور الخاصة، مثل صورة «الفَرْشَة» (غرفة العرس)، وصورة زفاف أحد العرسان على حصان، وهو منظرٌمن تقاليد الزواج التقليدي، سمعت عنه ولم أشاهده في حياتي قط، رغم أن الصورة تعود للعام 1982. وينتقل العريس إلى «عين أم شعوم» بقرية الماحوز (كيلومترين جنوب المنامة)، حيث يغتسل ويتجمل ويتجهز للعرس قبل يوم واحد؛ وبعضهم يقصد «عين عذاري» غرب البلاد القديم. وليلة الزفاف يرتدي الغترة والعقال والبشت، وبعضهم كان يتقلد سيفاً مذهّباً، وإذا كان من أبناء الأسر الغنية أو رجال الدين، فإنه يعتمر عمامة.
في طريقه لمنزل العروس ليلة زفافه، يعرّج العروس على مسجد الحي لأداء ركعتين شكراً لله، وبمروره على منازل الأهل والأصدقاء، تنثر عليه الحلويات وقطع النقود المعدنية من فوق أسطح المنازل المتراصة الوادعة.
الصور كلها رجالية، وتضم بعضها صوراً للأمير الراحل، ولبعض رجالات الدولة، وبعض العرسان كانوا وزراء أو مسئولين سابقين. وتغيب المرأة تماماً عن هذه المجموعة، بسبب الوضع الاجتماعي المحافظ، رغم أن فنون الأعراس تعود للمرأة، فهي التي تجهّز الفرشة، وتزيّن العرائس، وتقوم بأغلب المهمات الصعبة من تحضيرات الزواج الذي كانت تستمر طقوسه لأسبوع، تقدم فيه الولائم ويُقرأ فيها «المولد».
الإصدار الجديد لـ«جمعية العاصمة للثقافة الإسلامية»، يحفظ صوراً يعود أقدمها إلى العام 1950 حتى 1985، وقد أشرف عليه طاقمٌ إداري/ فني، مكوّنٌ من 12 شخصاً، وبدأ بتخزين آلاف الصور من مئات الأرشيفات الشخصية، بعد أن خاطب 300 من عوائل المنامة، استجاب أكثرهم وتحفّظ أو امتنع آخرون. ثم تم فرز وتصنيف الصور ذات الجودة والصالحة للنشر حسب الأقدمية، إلى جانب عدم وجود ما يسيء على أحد، نظراً لمستوى المعيشة آنذاك.
المنامة هي القلادة التي تفخر بها البحرين، فهي فسيفساء تجمع كافة ألوان الطيف البحريني، الأصيل والوافد، وهي مجمّعٌ لكل المكوّنات المتعايشة، التي تروي قصة طويلة من التعايش والتسامح، حيث يتجاور الجامع والمسجد والمأتم، والكنيسة والمعبد، في ألفة يشهد لها الجميع. والإصدار جميل ومعبّر، وكان سيكون أجمل وأكمل لو شمل أطيافاً أوسع، رغم علمنا بأن الدعوات وصلت الجميع، فامتنع البعض واستجاب آخرون.
المنامة عاصمتنا التي تعيش الغربة والاغتراب، تبوح بأشجانها، وحقّ لها أن ننصت لهذا البوح الجميل.
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 4698 - السبت 18 يوليو 2015م الموافق 02 شوال 1436هـ
كيف الحصول على هذا الكتاب
سيدنا كيف نحصل على هذا الكتاب شاكرين لكم مقدما حيث اني من محبي التراث الشعبي
لولا مركزية القرار
مأتمنا ما زالت تقاوم الزحف الديمغرافي ولولا ذلك لاصبحت هذه المدينة غريبة في وسط مملكتنا
عاصمة تعاني من الغربة
فعلا.هذا هو حالها وخصوصا اهلها الذين يعيشون ضايعين كاقلية في بحر من الاجانب.
المنامة
لم تعد عاصمة لنا بل عاصمة اسيوية لا نشعر بها الا في محرم ورمضان.