العدد 4697 - الجمعة 17 يوليو 2015م الموافق 01 شوال 1436هـ

القواقع وذاكرة المرض: قواقع المياه العذبة

عين أم الشويلي في النويدرات
عين أم الشويلي في النويدرات

إن الحلزونات التي تعيش داخل قواقع لا تعيش بصورة حصرية في البحار أو على شواطئها، فمنها ما يعيش بالقرب من المياه العذبة وداخل العيون الطبيعية. وتتميز أنواع من حلزونات المياه العذبة أنها ناقلة لطُفيليات معينة؛ أي أن تلك الطُفيليات تنتقل عن طريق تلك الحلزونات للإنسان مسببة أمراضاً له. ومن أهم هذه الطفيليات، التي تنتقل عن طريق أنواع من تلك الحلزونات، الطُفيل المسبب لمرض البلهارسيا وكذلك الديدان الكبدية والديدان الرئوية. بالطبع، فإن قواقع المياه العذبة غير موجودة حالياً في البحرين؛ فما عادت هناك أي عيون طبيعية تذكر في البحرين. ولكن، قديماً، كانت البحرية مليئة بالعيون الطبيعية والتي كان يعيش فيها أنواع مختلفة من حلزونات المياه العذبة. إن البحث عن بقايا تلك الحلزونات يمثل، أيضاً، عملية بحث في تراث مفقود، ما عاد له وجود، وهو، كذلك، بحث في ذاكرة المرض في العصور القديمة.

فمن خلال عمليات التنقيب الآثارية المتخصصة يمكننا معرفة أي الأنواع من حلزونات المياه العذبة كانت منتشرة في العيون الطبيعية في البحرين؛ وذلك من خلال البحث عن بقايا تلك الحلزونات وهي القوقعة الخارجية التي يعيش فيها. كذلك فإنه يمكننا معرفة أي الأمراض، التي كانت مرتبطة بهذه الحلزونات، كانت منتشرة في البحرين؛ حيث تتميز الطفيليات التي ترتبط بحلزونات المياه العذبة، أن كل طُفيل منها يعيش داخل نوع محدد من حلزونات المياه العذبة، أي أنه في حال وجد هذا النوع من الحلزونات، أو بقاياه، فهذا يعني أن المرض الذي يسببه ذلك الطُفيل ربما كان منتشراً في هذه المنطقة. وبذلك يصبح البحث عن بقايا هذه الحلزونات، بمثابة البحث في ذاكرة الأمراض التي كانت تنتشر في البحرين قديماً.

القواقع وذاكرة المرض في البحرين

تعتبر دراسة Insoll and Hutchins أول دراسة متخصصة في بقايا حلزونات المياه العذبة وعلاقتها بذاكرة المرض، وقد أجريت هذه الدراسة في مواقع أثرية في البحرين يعود تاريخها للفترة ما بين 1050م - 1200م (Insoll and Hutchins 2005). وتشير نتائج هذه الدراسة، أن في تلك الحقبة التاريخية، كان يوجد في البحرين سبعة أنواع من حلزونات المياه العذبة، ومن بينها النوع Bulinus sp.، والذي يحمل بداخله طُفيل البلهارسيا. كذلك، فقد عثر على قواقع حلزون المياه العذبة من نوع Melanoides sp. وهذا النوع من الحلزونات يحمل أنواعاً من الديدان المتطفلة تعرف باسم الديدان الكبدية والديدان الرئوية. واعتماداً على هذه النتائج تم افتراض أن تلك الأمراض ربما كانت موجودة في البحرين، وربما كانت متوطنة فيها (أي endemic) في تلك الحقبة التاريخية، وربما استمرت كأمراض متوطنة في البحرين حتى بداية القرن العشرين قبل أن يتم ردم جميع العيون الطبيعية في البحرين، والتي كانت موطناً طبيعياً لتلك الحلزونات (Insoll and Hutchins 2005).

في سبيل تعزيز فرضيتهما، حاول الباحثان Insoll and Hutchins الاستعانة بالمراجع التاريخية، فلربما تم ذكر وجود تلك الأمراض في البحرين. وفيما يخص أمراض الديدان الكبدية والرئوية، فلا يوجد أي مصدر يذكر وجود هذه الأمراض في البحرين، أما بخصوص مرض البلهارسيا، فقد أشار الباحثان لمرجع تاريخي يؤكد أن مرض البلهارسيا كان متوطناً في البحرين في بداية القرن العشرين. يذكر أن المرجع الذي تم الإشارة إليه هو كتاب «The Bahrein Islands, 750 - 195» وفي هذا الكتاب يصرح الكاتب Abbas Faroughy أن مرض البلهارسيا كان متوطناً في البحرين (Faroughy 1951, p. 20). وللأسف فإن هذا الكتاب لا يعتدّ به في ترجيح مثل هذه المعلومة المهمة والنادرة، وكان يفترض أن يتم الرجوع للتقارير المتخصصة عن الأمراض المتوطنة في المنطقة، ومثل هذه التقارير متوافرة ودقيقة في معلوماتها.

هل انتشرت البلهارسيا في البحرين؟

إن بلد مثل البحرين، وكذلك شرق الجزيرة العربية، والتي كان بها العديد من العيون الطبيعية، والتي كانت تمثل بيئة خصبة لحلزونات المياه العذبة التي ربما كانت تحمل طفيليات لأمراض معينة، وهذا يعني، أنه لا يستبعد وجود الحلزون الذي يحمل طفيل البلهارسيا، إضافة إلى أن الدراسات الآثارية أثبتت وجود بقايا لهذا الحلزون في حقب تاريخية قديمة. مثل هذه الاحتمالية لم تفارق تفكير الأطباء الذين عاشوا في المنطقة في بداية القرن العشرين، والذين كانوا يعملون على دراسة الأمراض المتوطنة في المنطقة. هذا، ومنذ بداية القرن العشرين تم تشخيص حالات لمرضى يعانون من مرض البلهارسيا في البحرين وشرق الجزيرة العربية، وتم طرح التساؤل عن مدى توطن مرض البلهارسيا في هذه المناطق.

وفي سبيل الإجابة عن هذا التساؤل قام الدكتور Ivan Alio المتخصص في الأمراض المتوطنة والذي كان يعمل في أرامكو، في منتصف القرن العشرين، بدراسة ميدانية لتحديد التوزيع الجغرافي لمرض البلهارسيا في شبه الجزيرة العربية والبحرين، وقد شملت الدراسة البحث عن حلزونات المياه العذبة التي تعيش في العيون العذبة في هذه المناطق. وقد نشرت النتائج في تقريراً مطولاً وذلك في العام 1967م، وتتلخص نتائج الدراسة أن البحرين وشرق الجزيرة العربية كانت خالية من الحلزون الذي يحمل طُفيل البلهارسيا، وكذلك فإن الذين كانوا يعانون من مرض البلهارسيا لم يكونوا من السكان المحليين في هذه المناطق بل وافدين (Gelpi 1998, V.1, pp. 96-98).

وقد جاءت نتائج Alio مطابقة للتقرير الذي نشر في العام 1954م حول الأمراض المتوطنة في البحرين، والذي يؤكد خلو البحرين من البلهارسيا، باستثناء وجود حالات فردية لمرضى من الوافدين إلى البحرين (Global Epidemiology 1954, V.3, pp. 225-265).

ويجب التأكيد على نقطة مهمة وهي، حتى وإن وجد حامل طُفيل المرض في البحرين، هذا لا يعني بالضرورة وجود الطُفيل نفسه في هذه الأنواع في البحرين. وأكبر دليل على ذلك أن الحلزون الذي يحمل الديدان الكبدية والرئوية Melanoides sp. بقي وجوده في البحرين حتى نهاية الستينيات من القرن العشرين (Alio 1967 in Wright 1980)، ومع ذلك لم يتم الإشارة لوجود تلك الأمراض في البحرين في التقارير المتخصصة.

عين أم الشويل وعين أم الحصم

لقد أثبتت الدراسات وجود ما لا يقل عن ثلاثة أنواع من حلزونات المياه العذبة كانت تعيش في العيون الطبيعية في البحرين حتى نهاية الستينيات من القرن الماضي (Alio 1967 in Wright 1980). والمرجح أن هذه الحلزونات ربما تكون انقرضت من البحرين في الوقت الراهن، أو أنها أصبحت نادرة الوجود تعيش في بعض المنجيات في المناطق الزراعية. إن قواقع هذه الحلزونات لا يختلف شكلها كثيراً عن قواقع الحلزونات التي تعيش في البحر، وهي قريبة الشبه من القواقع البحرية المسماة الحصم والشيج إلا أنها أصغر منها. وقد كانت هناك أسماء عيون طبيعية في البحرين، نرجح، أنها مرتبطة بتواجد هذه الحلزونات فيها. فمنها عين أم الشويلي أو أم الشوّيل في قرية النويدرات، على الساحل الغربي لكبرى جزر البحرين، والشوّيل تصغير شوَل، والشوَل، عند العامة، من مسميات الصبان والحصم (أي القواقع البحرية)، والشوّيل كذلك من أسماء الحوَّيت (من القواقع البحرية). كذلك كانت هناك عين تسمى عين أم الحصم، في قرية المصلى (صحيفة «الوسط»، 3 أبريل 2010م)، والحصم اسم من القواقع البحرية ويشبه في الشكل قواقع المياه العذبة. فهل عرفت هذه العيون بهذه الأسماء بسبب وجود حلزونات المياه العذبة فيها؟

الخلاصة، إن البحث في حلزونات المياه العذبة، يقودنا للبحث في ذاكرة المرض، وبالخصوص تلك الأمراض التي لم يسجل وجودها في السكان المحليين في البحرين. كذلك، يقودنا للبحث عن مسميات العيون العذبة، وهل ارتبطت مسميات بعضها بحلزونات المياه العذبة. في واقع الأمر، يقودنا البحث في القواقع والأصداف، بصورة عامة، للبحث في تراث عريق لم يوثق بعد، ومازال للحديث بقية عن التراث المرتبط بالقواقع والأصداف.

العدد 4697 - الجمعة 17 يوليو 2015م الموافق 01 شوال 1436هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً