ماذا لو أعطيتُ أحداً منكم نصاً ليقرأه؟ أو ماذا لو طلبتَ عزيزي القارئ من أحدٍ أن يصحبك إلى السوق أو في سفر؟ أو ماذا لو ناولتكَ جهازَ هاتفي كي تمسكه بيدك وتشاهد مقطع فيديو مُحدّداً؟ قد يتساءل البعض ما هذه الأسئلة الغريبة والمبتورة! هي أشبه بالطلاسم التي لا معنى لها كونها فاقدة للغاية. فهي أعمال بديهية يقوم بها المرء يومياً إن كان قراءة أو مشياً أو غيرها.
حسناً، ليفترض كل واحد منا أنه عاجز عن أداء الفعل «البديهي» الذي يعتقد أن ذِكْرَه في السؤال أمر غريب. فحين أناولك النص لتقرأه لا تستطيع لأنك فاقدٌ للبصر. وماذا لو اكتشفتَ أنك غير قادرٍ على النهوض إلى السوق أو إلى سفر، لأنك كسيحٌ لا تقوى على ذلك. وماذا لو أبديتَ عجزاً حقيقياً عن تناول الأشياء لأنك لا تملك يداً تهشّ بها عن وجهك فضلاً عن الإمساك بالأشياء؟
عندما تكتشف أنه يمكن أن تكون في هذا الموضع فقد تنتبه إلى أن تلك الأسئلة ليست بسيطة ولا غريبة، بل هي مؤلمة وقد تواجهها يوماً من الأيام. فكثيرون يُصادفونها في حياتهم اليومية، وتكون تحدياً لهم دون أن نلتفتَ نحن إليهم، لأننا لا ننشغل بما هم عاجزون عنه، ويتوقون للتغلب عليه. فالبعض فاقدٌ للبصر، والبعض الآخر ليس لديه القدرة على الحركة، وآخرون فاقدون لأطراف من أجسامهم. والأشكال لا تنتهي إن كانت في السمع أو الشَّم أو غير ذلك.
الحقيقة، أننا لا نرى الأشياء إلاَّ إذا اقتربنا منها، ولا نحسّ بقيمة الأشياء إلاَّ إذا افتقدناها. هذا ينطبق أيضاً على ما نتمتع به من نِعَم والتي عُرِّفت على أنها «ضد البَأْساء والبُؤْسى». فحين نفقد ما نملك نعرف قيمته جيداً. مَنْ كانوا يُبصرون يتحسَّرون على البصر أكثر ممن فقدوه منذ الولادة أو الصِّغَر حين كانوا لا يدركون قيمته. ومَنْ باتوا عاجزين عن الحركة يعرفون قيمة النهوض والوقوف والجري والمشي الذي يقضون به حوائجهم دون مساعدة أو منّة من أحد. المشكلة مَنْ يتمتع بصحة وعافية لا يلتفت إلى ما لديه، بل لا يُكلِّف نفسه حتى في المحافظة عليها كونها أصبحت جزءًا «عادياً» لا يُلتَفَت إليه بفعل النشاط اللحظي لها وبها.
سمعت حكمة كان يرددها الصينيون منذ غابر الأيام. كانوا يقولون: «ثلاثة صعبة على الإنسان: أن يريد النوم فلا يستطيع. وأن يُحبَّ إنساناً وهو يعلم أن حبيبه لا يُحبه. وأن ينتظر إنساناً وهو يعلم أنه لن يأتي». وكل مَنْ أحَب وفَقَد يعرف أنهما أمران حقيقيان في تأثيرهما القاسي على الإنسان. لكن، ربما لا يعرف البعض مدى الألم الذي يُحدثه عدم القدرة على النوم بالنسبة للإنسان، إلاّ مَنْ خَبره وذاقه.
قبل أيام، حضرت محاضرة صحية رائعة لاستشاري الأمراض الصدرية واضطرابات النوم رياض سلمان، تحدث فيها بشكل علمي عن ظاهرة النوم لدى البشر. والحقيقة، أن كل معلومة تحدّث عنها كانت جديدة بالنسبة لي. فعلى الرغم أن الإنسان يقضي حوالي ثلث حياته نائماً، إلاّ أنه لا يعرف عن النوم شيئاً يذكر، رغم أنه يخلد إلى النوم كل ليلة وعند الظهيرة، ومتى ما شعر بالتعب.
عندما استمعت إلى الطبيب وهو يشير إلى أن «العديد من الأنشطة المعقدة على مستوى المخ والجسم بصفة عامة» التي تحدُث أثناء النوم ومراحله المختلفة وتفسير النوم العميق ومتلازمة الساقين غير المستقرة واضطراب شلل النوم، تبيَّن أن هذه الساعات التي يقضيها المرء في سباته المؤقت هي نعمة كبيرة لا يُقدّرها إلاَّ مَنْ فقدها. وقد اكتشف الصينيون -كما أشرنا- أهميتها للبشر قبل آلاف السنين، إلى الحدّ الذي عَدّوها كفقد الإنسان لعزيز أو لعذابه من حبيب.
قبل سنوات وحين زار أحد المسئولين سوق بيع الأسماك وكان معه وفدٌ من كبار التجار، شاهد أحد أعضاء الوفد رجلاً فقيراً يتوسَّد نعلَيْه على الأرض، ويغطّ في نوم عميق رغم رائحة لغانين السّمك النتنة والماء الذي يُرشّ عليه، ورغم الأصوات المرتفعة للباعة والمشترين. تعجَّب ذلك التاجر مما رآه وقال معلقاً لمن هو بجانبه: لديّ في بيتي غرفة نومٍ بها سرير وثير وأثاث لا نظير له، ومُحاطة بجدران عازلة للصوت، لكنني أعجز أن أنام ولو للحين. أما هذا الرجل الفقير فهو قادر على النوم من دون أي وسائل راحة.
نكتشف هنا، أن المال لا يأتي بالسعادة دائماً، وأن الفقر لا يأتي بالبؤس «دائماً»، فمآل الثراء والفقر «ليس حتمياً» ولا هو ذو صفة واحدة، لكنه مجموعة صور. فلربما يُمنَح المرء المال، فيكون سبيلاً لموته بالأسقام الناتجة عن هموم حراسته، والمعارك التي يخوضها من أجله. بالمقابل ربما يُصاب المرء بالفقر فلا يُفقده صحته بالضرورة، لكنه «قد» يحرمه الاستمتاع بكماليات الحياة.
أخلص إلى نتيجة ربما هي السبب الرئيس للعديد من مشاكلنا، وهو النظرة إلى ما لا نملكه. فهناك فارق ما بين الطموح والطمع. فالطموح العاقل مباح، أما الطمع فمهلكة. يقضي عديدٌ من الناس وقتاً أكثر مما ينبغي في التطلع لما يملكه الآخرون من مظاهر باهرة تسحر عيونهم، لكنهم يجهلون ما يملكونه هم وما يفقده أولئك الميسورون في أبدانهم وأبنائهم.
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 4697 - الجمعة 17 يوليو 2015م الموافق 01 شوال 1436هـ
أبراهيم الدوسري
شكرا على هذا المقال
احم احم
هدا كلام جميل كلام الحكماء والنبلاء ؟ لو كان كل الناس بهذا النبل لكنت هدي الامة تستحق من يضحي من اجلها ؟ لكن الواقع مختلف
رائع
هناك الكثير ممن لا يقدرون النعم التي انعمهم الله اياها ولا يشعرون بقيمتها بل على العكس قد يظنون انهم يفقدونها.. شكرا على المقال الرائع وعيد مبارك ابو عبدالله