لا شك أن هناك كرهاً دفيناً وظاهراً بين بعضنا بعضاً تراكم على مدى عقود بسبب انحسار مساحة التسامح بمعناه الحقوقي وليس اللفظي، وهيمنة الرؤية الأحادية عبر احتكار قنوات ومصادر المعرفة والتوجيه العام، وبث خطاب التحريض ضد المختلف.
ما الذي يفرق في العلاقة المجتمعية الحاضرة وبين ما كانت عليه في «الزمن الجميل»؟ فالمذاهب من أفكار ومعتقدات وشعائر لم تتغير أو تزد عما كانت عليه سابقاً. ما تغيّر هو أن هامش التسامح كان سائداً بشكل أوسع، وكان ينظر للآخر باعتبار أنه يمارس حقاً مشروعاً له.
بل إن جيل الآباء من أتباع المذاهب المختلفة كانوا يتندرون ببعض الآراء المذهبية المختلفة بينهم، باعتبارها جزءًا من عادات وأفكار قد تتحول إلى نقاش يمتزج بالهزل والتندر، دون أن يعتبره الآخر إهانةً أو استهزاء. وهكذا كانت مثل هذه العلاقات الاجتماعية هي السائدة بين المختلفين مناطقياً أو قبلياً.
غاب التسامح بين الناس من مجتمعنا، وسادت تيارات التشدد التي امتزجت بالعنصرية المناطقية، وانتشرت التصنيفات بين مكوّنات المجتمع، وحدثت مفاصلات بين «نحن وأنتم»، وأبرزت عناصر الاختلاف وغيبت المشتركات.
أصبح همّ الخطيب المنبري هو تأكيد الهوية الغالبة المختلفة عن الآخر والعمل على الحط من مكانته، والجامعات تحوّلت إلى مراكز بحثية في تأكيد وتوثيق الاختلاف، والإعلام غيّب التنوع القائم في المجتمع بصوره المختلفة.
للعودة إلى الوضع الصحيح، لابد لنا من إعادة قيمة التسامح في المجتمع، والتأكيد عليها، بمعنى احترام حق الآخر في الاختلاف. وهذا يتطلب مشروعاً وطنياً شاملاً يرتكز على إعادة نشر ثقافة التسامح في المجتمع، ونبذ كل أشكال التحريض على الكراهية.
قد يبدو أن دعوات مثل هذه في ظل التوتر المذهبي والطائفي القائم، نوعٌ من مضيعة الوقت والنفخ في «قربة مثقوبة» حسب المثل الشعبي، لكني أرى أن تأكيد القيم واستحضارها هو ما قد يساهم في تخفيف التشنج الطائفي واستئصال بذور الكراهية واجتثاثها، على الرغم من أن ذلك لن يتأتى إلا بقرار سياسي يتفهم خطورة هذه المرحلة ويدرك الآثار المترتبة عليها.
تعالوا بنا نتصور كيف سيكون وضعنا لو قمنا ببعض الخطوات العملية في هذا المجال:
-حظر أي خطاب يتصف بالحض على الكراهية عبر قانون صارم وواضح وشامل.
-اعتماد وزارة التربية تدريس منهج تربوي يعزز قيم التسامح في جميع المراحل الدراسية.
- قيام وزارة الشئون الإسلامية بإصدار سلسلة دراسات دورية حول التسامح الديني، واستضافة مؤتمر دولي حول التسامح يشارك فيه ممثلون من مختلف المذاهب، وتأهيل أئمة المساجد والخطباء على تناول موضوع التسامح.
- تنظيم مركز الملك عبد العزيز للحوار الوطني ورش عمل محلية على مستوى الأحياء في مختلف المناطق للتثقيف حول ضرورة التسامح.
- قيام هيئة حقوق الإنسان والجمعية الوطنية لحقوق الإنسان بعمل مرصد وطني للتسامح، يهدف إلى رصد توجهات التحريض على الكراهية، وتنظيم برامج حقوقية لتأكيد قيم التسامح.
- قيام أقسام علم الاجتماع في الجامعات المحلية بعمل دراسات ميدانية حول حدود قيمة التسامح في المجتمع ومدى تقبل المجتمع لها وأسباب انحسارها، وكيفية تعزيزها.
- اعتماد برامج إعلامية موسعة من قبل مختلف وسائل الإعلام المقروءة والمرئية والمسموعة، تهدف إلى إبراز التنوع المذهبي والمناطقي والقبلي القائم في المملكة.
- تكثيف الزيارات المتبادلة وإطلاق مبادرات أهلية للتواصل والتعارف والتلاقي والحوار بين مختلف المكونات الاجتماعية.
لو أن هذه البرامج تم تنفيذها بصورة فاعلة وجادة، فإنّها من المؤكد ستغيّر من شكل علاقاتنا الاجتماعية، وستعيد رسم صور أدق، وأفضل عن بعضنا بعضاً، وبالتالي نعود كما كنا أكثر تسامحاً وتفاهماً.
وأخيراً فإننا لن نتمكن من اقتلاع جذور التطرف والإرهاب والتكفير والتشدد إلا من خلال برامج إيجابية وفاعلة ومدعومة رسمياً، تهدف إلى توسيع مساحة التسامح في المجتمع، وتحد من غلواء فئة المتطرفين.
إقرأ أيضا لـ "جعفر الشايب"العدد 4695 - الأربعاء 15 يوليو 2015م الموافق 28 رمضان 1436هـ
التسامح
التسامح غاب و انتهى للأسف عندما صار البغض يوالي ايران و يعادي اخوانه في الوطن
لا نضيع البوصلة على القارئ ؛ فلنوجه الخطاب للمعني
مهمة المثقفين أمثالك يا أستاذ جعفر توجيه الأمة إلى أماكن الأمل والخطر. الأمل عند من يؤسس للتسامح و المعذرة و الصفح، و الخطر ممن يدعون للتكفير و المنابذة و الاقتتال. بعض الخطوات أشبه بجراحة عاجلة ، منها توجيه سهام النقد للنصوص و الفتاوى المكفرة من قبل بعض الممثلين للمذاهب السنية و الشيعية.
الخطاب غير موجه لأحد، بل المعني به يقول لا دخل لي في المشكلة، و نريد أن نقول له بالاسم و الوصف أنت من أسباب المشكلة.