تكبر المشاكل بالنوم عليها. المُنتبهون والمُواجهون لمشاكلهم أقدر الناس على احتوائها، والسخرية منها أحياناً، مهما كانت كبيرة! وفي النوم على المشاكل كثيراً ما يكون نوماً على المصير، كأننا من بين شعوب العالم نمتهن تلك الكارثة التي اسمها النوم!
كثير هم من في يقظتهم نيام واقعاً. ليست اليقظة أن تكون عينك مفتوحة. كثير من العيون المفتوحة لا تبصر ولا ترى. لا ترى ما يمكن أن يغيِّر واقعها من حال بالغ السوء إلى حال أفضل. كثير من الأعين المغمضة تذهب إلى ما بعد الرؤية. تذهب إلى رؤية الداخل! تلك أعين ترى أهدافها، وتعرف غاياتها؛ فيما الأولى تجد في الفراغ والانتظار مركز أهدافها وغاياتها!
هل العرب اليوم في يقظتهم؟ كيف نُفسِّر إذاً تخلُّفهم عن مُجريات الحركة في العالم؟ هل يُبصرون طبيعة الحركة تلك؟ يمكن لأعمى بصر أن يُنجز أضعاف ما أنجزوه؛ ليس فقط لإثبات الذات؛ ولكن كي لا يكون رقماً في طوابير الموتى! التاريخ الوجودي للعرب والمسلمين ومنذ قرون يرى خلاف ذلك، ويصر على أن يكون المنتسبون إليه أرقاماً في طوابير الموتى!
ما يُظنُّ أنها يقظة للعرب اليوم، لا تختلف كثيراً عن الشلل الكلي. حتى المشلول كلياً يمكن أن تكون له عين بصيرة؛ العين بحد ذاتها ليست امتيازاً. الامتياز هو ما ينتج عن تلك العين. وما ينتج عنها لابد أن يكون إضافة للحركة في عالم مشغول بسباق لا ينتهي من الفعل الخلاق. من دون ذلك الانشغال، فلا أثر يدل على أحد.
هل الإرهاب الذي يرفع راية الدِّين اليوم، وبكل هذا العمى الذي يمارسه، يبصر وفي يقظته؟ هل اليقظة في القتل والدمار والذبح والسبي وإلقاء الناس من شاهق، وإحراقهم، وإغراقهم، وتقطيع أوصالهم؟ هل هي في السطو المسلح على أفراد ودول؟ هل هي في هذا الاندماج والحلف الذي لم يعد خفياً مع قوى الظلام، تلك التي تريد بهذا الجزء من العالم، كل هذا الدمار والخراب والتجزئة والضياع؟ هل ثمة مدى يمكن أن تبصره عين في ظل واقع ممعن في ظُلمته كهذا؟ ربما في القبر. نحن نتحدث هنا عن موتى لا عن أحياء!
الإرهاب الذي يتمدَّد اليوم باسم الإسلام، وباسم «الخلافة الراشدة»، يُرسل الناس إلى موت لا يقظة فيه - على الأقل بالنسبة إلى عالمنا - فعن أي يقظة يتحدَّث أولئك ويدْعون؟
التنفير من الدِّين الذي يمثِّله أولئك، ينسحب في الوعي لدى الآخر على الدِّين النقي. دين الفطرة والمحبة الذي لا يُقدَّم من قبِل بعض إعلامه، ولا تقدِّمه بعض مراكز أبحاثه. ذلك الدِّين المُغيَّب، هو الذي يملك اليقظة في أجمل صورها ومعانيها. هو الذي يملك الرؤية التي يتم التعتيم عليها من جانبين: جانب الذين اختطفوه، وشوَّهوا صورته، وجانب الذين يتلقون الصورة الخاطئة والمُتلاعَب بها من الدِّين، فيروِّجون لها باعتبارها الصورة الأصل، في إعلام متورِّط في الإثارة بدرجاتها الرخيصة والدنيئة! وفي ذلك موت ونوم أيضاً!
على مستوى الحقوق. هل ثمة يقظة يمكننا أن نتخذها شاهداً أمام العالم؟ هل ثمة حقوق أساساً في هذا الجزء من العالم؟ إذاً، ما الذي يجعل الإرهاب يتمدَّد ويتناسل بتلك الصورة المرعبة والمخيفة؟ هل لذلك علاقة بالحقوق؟ في جانب منها من دون شك ثمة علاقة، وفي جانب آخر -كي لا نمنح الإرهاب والإرهابيين صك براءة- للمناهج والتعاليم والتخريجات الفقهية، والمدارس التي مضت عليها قرون، ومازالت صالحة لاستخدام بعض المنتسبين إلى الآدميين في الألفية الجديدة، وإذا استمرت الأوضاع على ما هي عليه، ستكون صالحة للألفية المقبلة أيضاً. وكل ذلك يكشف في الوقت نفسه عن مصاهرة مع الموت والنوم!
كل الحقوق اليوم يتم اختزالها في الأمن الذي يستنزف موارد وموازنات هذا الجزء من العالم، فلا هو وفَّر أماناً بالمعنى الحقيقي للكلمة، ولا هو وفَّر أبسط الحقوق التي هي بمثابة سدٍّ لأبواب القلاقل والفتن، وحتى الإرهاب.
كل هذا التخلف والتراجع، والانكفاء والانعزال، والبرزخ العملاق بين ما يحققه العالم، وما نسعى إلى تقليده وفي درجاته السيئة، لا يقول بأي نوع من أنواع اليقظة. يقول موتاً صريحاً لا ينكره حتى أصحاب القبور!
وهل من اليقظة أن ننسب ونُرجع كل المآسي والاختراقات والنوائب التي تعتري مجتمعاتنا، وتعاني منها دولنا إلى أيدٍ خارجية؛ فيما سياسات التمييز الطائفي باتت بحكم القانون، وجزءاً من العرف؟ وتشطير المجتمعات من الداخل ضمن الخطط بعيدة المدى، مثلها مثل شق الطرق، وبناء الجسور، وافتتاح المدارس والجامعات؟ وباتت تحظى بالأولوية ومتقدِّمة على كل ذلك!
والذين يقفون وراء كل ذلك إما أنهم يعلمون بأن النهايات لن تكون مربحة، ومع ذلك يستمرون في السياسات تلك في تبنٍّ صريح وواضح لـ «عليَّ وعلى أعدائي»، وإما أنهم لا يعلمون، ومع ذلك هم من يضع الخطط ويرسمون مستقبل هذه الأوطان! ويتحكَّمون في خياراتها، ويتلاعبون في مصيرها؛ وتلك هي أم الكارثة.
في الشريعة التي نشهد، والعصابات التي تعيث في المعمورة فساداً من شرقها إلى غربها، ومن شمالها إلى جنوبها، لا شيء غير الموت والنوم. الموت الذي تمتهنه، والنوم على التخلُّف والإبادات ومحاولة إرجاع الإنسان؛ أو ما تبقى منه، إلى ما قبل عصور اكتشاف النار، وقبل تشكل الاجتماع البشري.
ثم ما اليقظة؟ في أقل توصيف لها: أن تكون شريكاً فاعلاً وخيِّراً في ما يحدث من حولك. أن تكون جزءاً منه، وعلى علاقة وطيدة به، وأن تكون جزءاً من صانعيه، وكل توصيف بعيد عن ذلك لن يتجاوز اللعب بالكلمات ومحاولة الاستخفاف بالوعي أيضاً!
إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"العدد 4695 - الأربعاء 15 يوليو 2015م الموافق 28 رمضان 1436هـ