في كتابه الضخم «الدينتكس... علم العقل/ الروح»، الذي يندرج ضمن النظريات النفسية الحديثة، يكشف الكاتب ل. رون هابرد، كثرة الوسائل النفسية المستخدمة لخلق جيل يحمل عقلاً تخديرياً وانفعالياً بهدف استغلاله للعمليات الإرهابية والتطرف وكراهية الآخر، ومحو أية قيم تسامحية أو قبول الآخر المختلف في الدين أو المذهب أو الفكر، وهو ما يقدم لنا تفسيراً لأسباب انتشار الإرهاب، وقدرة التنظيمات المتطرفة على جذب المزيد من الشباب لقدرتها على تكريس قناعات «راسخة» لديهم بأنهم في طريق الصواب باستخدام الأساليب والخدع النفسية.
إن نظرية ربط جميع الديناميكيات بعضها ببعض مفيدة لحل المشكلات في المجتمع ومؤسساته، حيث إن أي إنسان أو مجموعة أو جماعة أو طائفة، قد يكون في حالة تنافس مع أي جماعة أو طائفة أخرى، ولكن المعادلة للحل الأمثل تكون بأنه لا يمكن اعتبار الحل لأي مشكلة جيداً وناجحاً إلا إذا حمل في ثناياه أقصى فائدة لأقصى عدد من الأفراد والجماعات كلها. لذلك فإن المنحرف ذهنياً، أفراداً أو حكومات، لا يتعامل مع الحل الأمثل للجميع، بل هو سلوك غير عقلاني للبقاء، لذا يمارس حلولاً خارج الأمثل وخارج الضرورة بشكل غير منطقي وغير عقلاني.
وتؤكد هذه النظرية النفسية بأن هذا العقل الانفعالي ليس فقط يصيب الإنسان بالأمراض، بل هو الذي يدفع بالحروب والفتن ويجعل السياسة غير عقلانية، ويجعل كبار المسئولين يزمجرون. بل أن هذا العقل الانفعالي يؤثر على العقل الجمعي للجماعة أو لكل شرائح المجتمع نتيجة لممارساته المؤلمة بحقهم، فهناك علاقة واضحة بين مستوى شعور الفرد أو الجماعة بالألم (مثلاً انتهاكات لحقوقهم وكرامتهم) ومستوى التوقف في قدراته التحليلية التي تكون عاليةً جداً عندما يكون الفرد أو الجماعة مرتاحة وسعيدة ولديها الحماس والتفاؤل، أما إذا كانت الفرد –أو الجماعة- يتألم وحزين في مشاعره فإن قدرته التحليلية تقل، ويمكن إسقاط هذه الفرضية النفسية على الصدمات التي تواجهها المجتمعات أيضاً. فالمجتمع كله معرض لتوقف القدرة التحليلية لديه، وحتى لدى الأنظمة الحاكمة، بدرجة أكبر أو أصغر، عندما تعاد استثارة «عدم الوعي» الذي مورس بحقهم في فترات الصدمات السابقة. فالمجتمع الذي يملك حالات عدم الوعي في بيئة فيها العديد من المستثيرات، كإعلام متأزم وتعبئة وتحريض وتمييز وبث خطاب الكراهية، يكون عرضةً لكميةٍ هائلةٍ من الاستثارة يؤدي إلى التوقف في المقدرة التحليلية للأفراد. وقد يصل إلى مجتمع غير عقلاني.
إن عدوى الانحراف الذهني في المجتمع تكون خطيرةً جداً، حيث أن الكيان الاجتماعي مثله مثل الكائن الحي من ناحية التصرف والسلوك، فحين توجد هناك انحرافات ذهنية داخل المجتمع، بما فيه الإدارات السياسية فيه، والتي تسبب الألم لأي عضو فيه، فإنه يبدأ كمصدر للانحراف الذهني المعدي. فعلى سبيل المثال إذا اعتبر العقاب الجسدي غير الإنساني عملاً مشروعاً فإن هذا المجتمع الذي يمارس فيه هذا العقاب ضد أي من أعضائه إنما يخلق عدوى الانحراف الذهني على الآخرين، ما يؤدي إلى استمرار الهبات الشعبية ورفض وجود مثل تلك الأنظمة.
وترى هذه النظرية النفسية بأن الحكم بالإكراه يعتبر انتهاكاً لقانون المحبة، لأن الإكراه يولّد الإكراه، وحكم الإكراه يقلل من الإرادة الذاتية لأفراد المجتمع، وبالتالي فهو يقلل من الإرادة الذاتية للمجتمع نفسه، وإن الجنس البشري يكون عظيماً بقدر ما يملك أفراده من الإرادة الذاتية.
إن الإرادة الذاتية هي الطريقة الوحيدة الممكنة من أجل تصميم عقلٍ قادرٍ على إعطاء إجابات عقلانية، وغيابها يعني تقديم إجابات خاطئة، تماماً كمن يدخل معلومات خاطئة في عقل الكمبيوتر، فمن الطبيعي أن تخرج نتائج خاطئة.
إن تقديم إجابات جامدة وغير عقلانية وغير منطقية لأي إنسان، سوف يجعل هذا الإنسان يقوم بعمليات وإجابات خاطئة التي تدخل من العالم الخارجي إلى الأعماق المجهولة دون التفكير العقلاني، وبالتالي تعمل على إعاقة الوصول إلى الإجابات العقلانية والمنطقية. وهذا الأمر يعتبر بمثابة إرادة مفروضة من العالم الخارجي، فعلى سبيل المثال إذا كان الإنسان مجبراً على الطاعة (لأية جهة كانت) فإن استقلالية تفكيره وإرادته الذاتية تعاق إلى درجة لا يمكنه معها الحصول على إجابات صحيحة، والحقيقة لا يمكن أن نعثر على مجتمع مُجبر يكون رابحاً أمام مجتمع مثله حر ومزدهر.
وفي الفصل الخاص لعلاج الانحرافات الذهنية، يؤكد الكتاب بأن المعالج (الطبيب) عليه أن يركز على حاستي السمع والنظر للمريض، وإذا كان المريض ليس لديه أية قدرة على الاستذكار الصوتي والسمعي والبصري، فإن ذلك يعني بأنه من الشخصيات المصابة بجنون العظمة. ومجتمعياً يعني أن عدم قدرة الأفراد المستبدين على الاستذكار الصوتي والسمعي والبصري لحوادث ماضية مارسوها، يعني أنهم مصابون بجنون العظمة، حيث لا يرغبون بأن يسمعوا عن ماضيهم. وكذلك الحال بالمريض المصاب بالشك، حيث أنه يملك في عقله دائماً المعلومات والإجابات الخاطئة. وظاهرة الشك موجودة أيضاً لدى بعض الحكومات لعدم وثوقها بولاء شعوبها، أو لدى أعضاء في منظمات وأحزاب يشكون دائماً لممارسات ومواقف قياداتهم.
ينتهي كتاب «الدينتكس... علم العقل/ الروح»، بتقديم وجهة نظر هذه النظرية النفسية حول أنواع الحكم في العالم، حيث تعتبر النظم الاجتماعية التي ندعوها دولاً وأمماً تتصرف وتستجيب من كل جانب وكأنها نظم فردية تماماً، فللثقافة عقلها التحليلي، أي قدرة مواطنيها على الإحساس بشكل عام، وإن بنك الذاكرة القياسية الاجتماعية هي معطيات متراكمة من ناحية الإحساس بشكل خاص، والكيان الاجتماعي له أيضاً عقله الانفعالي كما هو متمثل في الأحكام المسبقة والسلوك غير العقلاني للجماعة كلها. هذا العقل الانفعالي يخدمه بنك المعلومات في العقل، حيث يوجد فيه كل خبرات الماضي المؤلمة والذي يملي تصرفات انفعالية على بعض الأشخاص في حاضر وقادم أيامهم.
إن الكيان الاجتماعي يتصرّف بطريقة يمكن معرفة درجتها على سلم المشاعر، فالمجتمع الحر الذي يعمل في تعاون كامل باتجاه أهداف مشتركة هو مجتمع يتمتع بمستوى شعور عال جداً من الفرح والاستقرار والاطمئنان وحب البقاء، أما المجتمع المقيد الحركة بسبب القيود الاعتباطية والقوانين القامعة هو مجتمع مستوى شعوره أقل من المجتمع الحر، أما المجتمع الذي يقوده رجل واحد أو عدة رجال قلائل يملون عليه إرادتهم ونزواتهم فيكون مستوى شعوره متدنياً، وقد يصل إلى الصفر. وكلما زاد القمع بمواجهة الشعور المتدني كلما بقى المجتمع يتدنى أكثر في شعوره. ومع وجود القمع تُخلق انفعالات جديدة، كما تهبط على سلم المشاعر فرصة البقاء الطويل، ومع استمرار هذا التدني للبقاء المحتمل يأتي الألم بكل أنواعه على سلم شعور المجتمع.
إن أية مشكلة، محلية أو دولية، من الممكن العمل على حلها عن طريق الوسائل السلمية، ولكن ليس في إطار المفهوم الفوقي للحكومات، وإنما في إطار العقل والمنطق، ليس بالشروط الحكومية المتخطية للأمة ولكن بالشروط المنطقية المتوافقة مع رغبات شعوبها وطموحها.
إقرأ أيضا لـ "عبدالله جناحي"العدد 4692 - الأحد 12 يوليو 2015م الموافق 25 رمضان 1436هـ
ما اطول الطريق علينا يا أستاذ عبدالله
الطريق طويل ووعر.