غرداية هي إحدى ولايات الجزائر الواقعة في الشمال الصحراوي الجزائري. يسكنها أكثر من 300 ألف إنسان، ومساحتها تزيد عن 86000 كم مربع. شكلها على الخارطة ما بين المعيّن والمستطيل من الأعلى نزولاً حتى ربعها الأخير الذي يتحوّل إلى التواءات على جهته الغربية والجنوبية.
جميعنا سمع بما جرى في هذه المنطقة من أحداث مؤسفة أدَّت إلى سقوط 23 قتيلاً حتى كتابة هذا المقال. طيلة يومين، حاولتُ أن أفهم ماذا يجري في غرداية. قرأت العشرات من قصاصات الأخبار والتعليقات والمقالات، واستمعت للعديد من المقابلات والتحليلات تعقيباً على ما جرى.
رغم المأساة إلاَّ أنني وجدتُ أن كافة أطراف الخلاف لا ترى له ذيلاً ولا أنفاً طائفياً في الموضوع. بالنسبة لي هذا أهم ما يجب أن يقف أمامه المرء ليُنزِلَ يده عن قلبه. بالتأكيد، خرَج منتفعون ومتصيّدون كي يقولوا بأن للأمر جَذراً طائفياً، لكنهم قِلَّة ويبدو أن أصواتهم نشاز من بين ما يقال.
بداية دعونا نعطي توصيفاً سريعاً للحدث كي يتضح الأمر جلياً. في غرداية هناك عِرق قبلي يسمى الشعانبة وآخر يسمى بني مْزَاب. الأول عربي والثاني أمازيغي. الشعانبة العرب مسلمون يتبعون المذهب المالكي، والمزابيون الأمازيغ مسلمون يتبعون المذهب الإباضي.
تاريخياً، كان المزابيون الأمازيغ هم الأكثرية في غرداية. بعد الاستقلال وبالتحديد أثناء حقبة الرئيس الجزائري الراحل هواري بومدين وأثناء الثورة الزراعية وصعود المد القومي العربي واتجاه الجزائر نحو الاشتراكية وهوى المعسكر الشرقي، قامت الحكومة هناك بإعادة توزيع الأراضي، فأعطِيَت أراضٍ يملكها المزابيون الأمازيع للشعانبة العرب.
خلق ذلك شعوراً بعدم الرضا لدى المزابيين الأمازيغ الذين اعتبروا ذلك بخساً لحقوقهم، ومكمّلاً للسياسات السابقة التي عمدت لتغيير ديمغرافية الولاية لصالح العرب على حسابهم. بينما كان أنصار الثورة الزراعية يعتبرون ذلك جزءًا من الإصلاح الزراعي الشامل وتنشيط التصدير، وإقامة السدود والتي كان أشهرها السد الأخضر.
توالت الأحداث وتراكمت المشاكل فظهر التهميش الاقتصادي والبطالة لتنضج مشكلة اجتماعية اقتصادية عميقة هناك، وكذلك وجود غرداية بين أكبر حقلين نفطيين في الجزائر، الأمر الذي ولَّد شعوراً لدى أبناء المنطقة، أنهم يُساهمون في ثراء الدولة والوطن دون أن يكون لهم نصيب من الثروة الوطنية.
من بين هذا كله، يتضح لنا أن المشكلة في غرداية الآن هي اقتصادية ولا علاقة لها بالمشكل الديني الطائفي. وهو أمر يجب أن يُدركه الجميع، وبالتحديد لبعض وسائل الإعلام، كي تعيد توصيف الحدث بطريقة موضوعية، ولا تكون سبباً في إعطاء المسألة أبعاداً طائفية وإطلاق نعوت كريهة على هذا الطرف أو ذاك وهو الداء الذي لا دواء له.
المالكية والإباضية عاشوا قروناً إلى جانب بعضهم دون خلاف. فهل يعلم هؤلاء أن اثنين من مؤسسي جمعية العلماء المسلمين بقيادة العلامة عبد الحميد بن باديس في مطلع الثلاثينيات من القرن الماضي كانا عالِمَيْنِ من علماء الإباضية الجزائريين رغم أن الجمعية ذات منهج مالكي؟
متى تحدث أحد وقال بأن الشيخ بيوض أو شاعر الثورة الجزائرية الكبير مفدي زكريا أو بن بيتور أو سليمان الشيخ كانوا إباضيي المذهب؟ ومتى انتبه أحدٌ ليعلن بأن مالك بن نبي أو العربي التبسي أو عبد الرزاق قسوم أو عبد القادر المجاوي كانوا مالكيي المذهب؟
ومتى تحدّث أحدٌ وقال بأن المناضلة الكبيرة فاطمة نسومر التي كانت إحدى قيادات المقاومة الجزائرية ضد الحملة الفرنسية العسكرية القاسية، والمسماة بـ «حملة جرجرة» على منطقة القبائل بالجزائر، قبل 158 عاماً بهدف إخماد الثورة هناك، كانت أمازيغية وليست عربية، وكذلك الحال بالنسبة لمصطفى بن بولعيد وغيره آلاف المناضلين الذين قدمهم الأمازيغ قرابين للجزائر.
وبالمثل مَنْ كان يتحدث عن آلاف الجزائريين العرب الذين ساهموا في قيادة النضال، ثم في تنمية الجزائر وقيادتها، وسطَّروا في ذلك مواقف لا تنسى عبر خط المقاومة والقومية الممتد حتى مصر أيام جمال عبد الناصر، ولم يقل أحدٌ إنهم عرب، بل كان العمل كله من أجل تراب الوطن.
لا يمكن لأحدٍ في الجزائر الحبيبة أن ينسى مساهمة المزابيين الأمازيغ في ألمع مشاريع الجزائر التنموية والاقتصادية والتجارية المتمثل في إقامة عمد التجارة الصحراوية التي أزالت الفتق ما بين شمال إفريقيا وجنوب الصحراء، وتشييد الطريق الأوسط الممتد وإدخال الدين الإسلامي إلى حوض النيجر الحبيس في الغرب الإفريقي، والمساهمة في تجارة المحاصيل الموسمية فيه.
اليوم، الكل يُجمِع على أن الأزمة في غرداية ليست طائفية ولا عرقية، بل هي فقط تتعلق بالتنمية الاقتصادية، فهي المخرز الذي بغيابه تتسرّب أزمات الولاية بين الحين والآخر. وقد رأينا المجالس العرفية المزابية وأعيان المالكية وهم يعلنون الحداد على أرواح الضحايا بالتضامن، ويطالبون بإجراء التحقيقات العادلة. وهو يعكس حالة عدم قبول الطرفين لما جرى، لأنهم بالأساس ليسوا في حالة خصومة لا تاريخية ولا حاضرة وبعناوين مذهبية.
أختم الحديث بما لفتني أثناء تحدث الشيخ نور الدين الهاشمي، وهو مزابي فقد ابنه وحِيْل بينه وبين الحضور في جنازة ابنه بسبب غلق الطريق وحرق السيارات، أن مَنْ كانوا يهتفون خلفه يُرددون: «غرداية الشهداء... لا لتقسيم الجزائر... لا للإرهاب» وهذا هو عين الحكمة.
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 4692 - الأحد 12 يوليو 2015م الموافق 25 رمضان 1436هـ
التوقعات تقول أن
أعداد الامازيغ في الجزائر هي 8 ملايين، وفي المغرب 12 مليون
شعب الجزائر وشمال افريقية
الشعوب الشمال افريقية معظهم الاغلبية الساحقة من اصول بربرية حتى الذين يقولون انهم عرب