العدد 4690 - الجمعة 10 يوليو 2015م الموافق 23 رمضان 1436هـ

ورطة المثقف... لمن يكتب؟

تدنت بشكل خطير شهية القراءة لدى المواطن العربي وأصبحنا أمة لا تقرأ تاريخها أو منجزها الفكري والثقافي، وإن فعلنا فإن الاتجاه المعرفي يمضي نحو كتب الأبراج والتنجيم والطبخ حيث تتسع الفجوة الحضارية بيننا وبين الآخر، فلا قداسة هنا للكتاب في أمة «اقرأ»!

وعليه... يعد المثقف العربي كعنصر ومحرك فاعل في صناعة الكتاب، من أكثر المتضررين جرّاء العزوف الجماهيري عن القراءة وعدم اعتبار الكتاب بشكله التقليدي سلعة استهلاكية مهمة كالخبز.

هنا... نقترب من هذه الإشكالية الثقافية كيما نستجلي حيرة المثقف وهو يسائل نفسه ضمن هاجسه الإبداعي... لمن يكتب؟

نتوجه بهذا السؤال لعينة من مثقفي البحرين، في محاولة للتعرف إلى تجارب هؤلاء في النشر والاحتكاك بالواقع الثقافي وماهية الحلول الكفيلة بإحداث التغيير. القاص والإعلامي إبراهيم راشد الدوسري، يجيب «سيظل الأديب يكتب ما دام فعل الكتابة بالنسبة له هو الأكسجين الذي يتنفسه. فالأديب الحق لا يحيى حياة طبيعية سوية إلا إذا استمر عقله وقلبه ودمه ممتزجاً بحبر القلم ونور الورقة فهذا ما يحفزه على التعبير عما يعتمل في عقله ونفسه من أفكار ومشاعر.

التوجه بالكتابة إلى المتلقي أمر طبيعي، الكاتب يحتاج إلى قارئ مفترض في مكان ما، سياق العملية أن كل طرف يكمل الآخر. صحيح أن الإصدارات الأدبية في الوطن العربي لا تجد الإقبال الكافي من قبل القراء لكن المثقف يواصل تعبه ويحرث في مختلف مناحي الساحة، شعور الورطة بحد ذاته لا يوقف العطاء، نعم ربما يحد حماسة الكتابة عندما تكون النتائج لا ترتقي والتطلعات التي يعّول عليها المثقف، لكن بوجه عام صناعة الكتاب مستمرة رغم الكثير من العقبات، قلة الإقبال على ثقافة التحصيل المعرفي أوجزها ضمن الأسباب التالية عدم التشجيع على القراءة الحرة في المدرسة والبيت والمجتمع. مؤسسات المجتمع المدني غير معنية بنشر ثقافة القراءة والعناية بالإصدارات الأدبية.

الجهات الرسمية ذات العلاقة بالثقافة والإعلام اهتمامها محدود جداً بالكتاب والأدباء، كما أن الخطاب الإعلامي المرئي والمسموع والمقروء يفتقر إلى البرامج المخصصة للأدباء وإصداراتهم، الأمر يقتصر على الأخبار الصحافية السريعة فقط!

لتصحيح مثل هذا الوضع أقترح أن تتحمل الجهات الرسمية المعنية بالثقافة في الوطن العربي ولو نصف تكاليف طباعة نتاج الكاتب. أهمية قيام الجهات الثقافية بالترويج الممنهج لإصدارات المثقف المحلي مع إعطائه جزءاً من حقوقه المادية لكي يتمكن من طباعة مشاريعه الكتابية القادمة. ضرورة الاحتفاء بالكاتب مع إبرازه في مختلف أجهزة الإعلام لتعريف الجمهور به وبطبيعة رسالته. ترجمة النتاج المحلي إلى اللغات الحية وهي مهمة ينبغي أن تقوم بها وزارات الثقافة العربية من أجل التعريف بخطابنا الثقافي والحضاري والمشاركة به في معارض الكتاب والمهرجانات الثقافية في الداخل والخارج. فك عزلة المثقف والتعريف بمنجزه الأدبي في الجامعات العربية وإدماجه في المقررات الأكاديمية أو تنظيم الجلسات النقدية لإصداراته. قيام وزارة التربية والتعليم بتخصيص حصة للقراءة والثقافة العامة لزرع حب القراءة منذ المراحل الدراسية المبكرة لتصبح فيما بعد أسلوب حياة للأجيال الشابة.

أما الشاعر والصحافي علي الستراوي فقال «النظر إلى أزمة تسويق الكتاب ودعوة القراء إلى قراءته تقع ضمن إشكالية كبيرة ليست من مسئولية الكاتب وحدها أو دار النشر، إنما المسئولية مشتركة، يدخل فيها المجتمع بأسره، فهو مسئول عن تراكم الكتب على رفوف المكتبات التجارية. فلا يمكن أن نقول بأن علينا أن نقرأ لكاتب معين ولكن علينا التوسع في عملية القراءة وتنويع المعرفة. فالمؤلف بالفعل في ورطة من أمره، دور النشر العربية ضعيفة ولا تمتلك المهنية الكافية لتسويق الكتاب كمثيلاتها في أوروبا، وإذا حصل وتوفرت مثل هذه الدار فإن قوانين المنع والرقابة العربية الرسمية التي تخشى من الثقافة العليا للكتاب، تضغط وتمنع ما لا يروق لها وتسمح بما يوافقها في الرأي. أعود لأؤكد أن المثقف متورط ومحبط، الدول العربية لا أقول كلها، لا تدفع الجمهور العربي نحو ثقافة الكتاب كما هو حاصل في الدول الأوروبية التي تولي في تكوينها السوسيولوجي مساحة كبيرة لأهمية الكتاب، فتراها تربي أجيالها منذ الصغر على حب القراءة واقتناء الكتاب.

الغرب يخصص الجوائز ويغري الجمهور وكذلك المؤلفين على التنافس، فهناك دائماً كاتب يكتب وجمهور متلهف للقراءة و الشراء، من جرّاء هذا التوجه الثقافي تنشط حركة الكتاب وتزدهر الثقافة كاستثمار حضاري واقتصادي منتج وهو ما نحتاج إليه لكي نوجد تنمية ثقافية حقيقية، تنصف الكاتب والكتاب. السياسة عندنا هي العدو الأول للكتاب، كما أن الغرق في الثقافة «الكومبيوترية» واعتبارها كل الثقافة أفرز لنا أجيال شابة تؤمن بالاستهلاك السريع وتبتعد عن المنابع الأصيلة للثقافة، واقعنا الثقافي العربي يحتاج إلى إعادة نظر حتى نصل إلى إيجاد حلول موضوعية وعملية تصحح مسار الثقافة.

القاصة والشاعرة البحرينية نعيمة السماك وتتطرق لزوايا مختلفة فتقول «بداية أتساءل كم يحتاج الكاتب من سنوات حتى يقرر إصدار كتابه الأول؟ والسؤال الموازي، هل هناك سن محدد يكون فيه الكاتب مؤهلاً لإصدار كتاب ما؟ ثمة أطفال اليوم يصدرون كتباً، فليس للإصدار عمراً محدداً ولكن ما أود الإشارة إليه أن بعض الكتاب من شباب اليوم يتسرع، ربما لحصد الشهرة الأدبية أو الثقة الزائدة في نفسه، الأمر الذي يؤثر سلباً على مستوى النتاج الأدبي المطروح والمكتبات التجارية تعج بالغث والسمين.

القارئ لا يشتري الكتاب؟ هذه معضلة الكاتب ليس مسئولاً عن هذا الوضع المتردي، لكن إن قال الكاتب لنفسه أن لا أحد يقرأ لي فلماذا أؤلف وأطبع وأتكبد الخسائر المادية والمعنوية، فهو هنا سيركن إلى الكسل ويتذمر مستنكفاً عن إصدار أي عمل كتابي آخر.

إن التكدس الحاصل للنتاج الأدبي أو الفكري في مكتباتنا التجارية، له علاقة مباشرة بالتسويق وطرقه ومدى قناعة دور النشر والمكتبات بتسويق الكتاب. عندك مثلاً الكتاب المحلي لا أجده يتصدر واجهة المكتبات التجارية؟ بالنسبة لي هذا أمر بغيض، النتاج المحلي تجده للأسف مركوناً في الخلف، والقراء لا يقبلون على اقتناء كتاب بعينه إن لم يحصل على التسويق المناسب، بالرغم من أنه لايزال هناك الكثير من القراء المهتمين الراغبين في العلم و المعرفة. الكاتب أو المؤلف كيف يستطيع تسويق نفسه، خصوصاً في عالمنا العربي؟ تعتريه مشاع الخجل من ذلك بينما في الغرب نجد أن دور النشر تعمل خطة ترويج عملية، كأن تعلن عن جولة من المحطات حيث يسافر الكاتب من مكان لآخر كي يوقع إصداره لقرائه ومحبيه، وكل ذلك يندرج ضمن خطة عمل واضحة لترويج الكتاب بشكل ممنهج واحترافي.

أجد هاهنا أن التشجيع على القراءة والمعرفة حتماً سيكون لهما مردود حضاري وينبغي أن نبتكر الحلول التي تكفل ذلك من أجل نهوض الأمة. أخيراً، الكاتب رسالته في الحياة أن يبدع وينتج، فلا بد أن يأتي اليوم الذي ينال فيه التقدير، مؤلفون عظماء أمثال تولستوي وشكسبير وتشيخوف وبوشكين، كم كنا لنخسر عطاءاتهم الإبداعية لو ركنوا للاستسلام بحجة أنهم متورطون، حيث لا داعي للكتابة مادامت الناس لا تقرأ.

القاص والصحافي الرياضي حسن بوحسن، شاركنا هواجسنا فقال: «عالمنا اليوم بحاجة إلى وعي أكثر بقيمة وأهمية الكتاب في حياتنا اليومية، عام 2000 رأت مجموعتي القصصية الأولى (عواطف في أحضان الغول) النور ومساحة الحرية لتستريح على أكف المتلقين من داخل وخارج البحرين بعد تمهيد لأجواء الطيران ورصف للطرق الشائكة التي تعترض دروب الكاتب وتوصف لدينا في البحرين دائماً بالدروب الوعرة والشاقة، لكثرة ما يلقاه الكاتب من معاناة، كما هو الحال مع الكاتب العربي كمواطن عادي يستجدي العطف والحماية من تسلط الدهر عليه.

عام 2009 أصدرت مجموعتي القصصية الثانية (خاتون والنسوة وما يشتهون)، قاسم المعاناة يدخل التجربة ويتجدد بدءاً من البحث عن دار النشر المناسبة ومرحلة الطباعة التي تكون أحياناً مرهقة ومن ثم استراحة النتاج في يد القارئ العربي. من هذا المنعطف تبدأ المشكلة، فأمام الكاتب تبرز إشكالية واقع عدم وجود أو قلة وجود الباحث الحقيقي عن الكتاب الأدبي، سرداً أو شعراً أو نثراً.

فواقع المكتبات التجارية التي تفتقر إلى الرفوف الأمامية التي تبرز وتروج وتقرب النتاج الأدبي المحلي لرواد المكتبات. ومع دخول التقنيات الحديثة وتوفر الكتاب الإلكتروني، ساهم هذا بشكل كبير في إيجاد جيل غير مكترث بتلمس الورق واستنشاق رائحة الحبر، فأنتج قطيعة مع الكتاب التقليدي وانتهى إلى التصفح الاستهلاكي السريع عبر شاشة الحاسب الآلي، حيث يعتقد الشاب أنها تغنيه وتشبع جوعه المعرفي وهذا بعيد عن الصحة.

في اعتقادي الكل يتحمل المسئولية عن تراجع شهية القراءة لدى المواطن العربي، ينبغي أن يكون للكتاب والكاتب موقعه المطلوب في حياتنا ويؤدي دوره المنشود، ومثل هذا الطموح يمكن له أن يتحقق، إذا ما ساهمت المؤسسات الثقافية الرسمية والأهلية بوضع استراتيجيات واضحة تعيد للكتاب وهجه السابق، لنكون أمة (اقرأ) بالفعل تقرأ... أكيد بعدها عندما تتحقق مثل هذه الخطوات، سوف لن نجد هناك بالخارج تكدساً للكتاب المهجور في مكتباتنا المحلية، كما لن تجد كاتباً يتساءل في حسرة، لمن أكتب؟

العدد 4690 - الجمعة 10 يوليو 2015م الموافق 23 رمضان 1436هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 2 | 7:00 ص

      أحب القراءة ولكن

      دعنا نوفر طعام للبطن حتى نتفرغ لطعام الفكر

    • زائر 1 | 7:43 ص

      فعلا ..

      يبدو لي بأننا لا لم نعد نشعر بجوع المعرفة، أكثر من جوع البطن. المقال غني ويسرد معانات متكاملة الأطراف، القراءة، المؤلف، والكتاب المحلي ..

اقرأ ايضاً