عندما تقرأ صحيفة، أو تجلس في مجلس، أو تتحاور مع صديق في شأن من شئون المنطقة، تجد التطرف في الرأي والجَزْم به هما الصفتان الغالبتان. ونظن في حواراتنا العامة هذه أننا منصفون في كلامنا وفي رؤيتنا للأشياء، ونعتقد أننا على صواب ونملك الحقيقة المطلقة، دون أن نعرف لماذا هي مُطْلقة!
هذه النظرة كانت محل نقاش طويل لمئات السنين بين فلاسفة الأخلاق، الذين توصلوا إلى هيكل منطقي يساعد الإنسان على فهم الحياة بشكل أفضل. حيث قسم الفلاسفة والمناطِقة (أهل المنطق) الأحكام أو التصورات التي يتبنّاها الإنسان إلى نوعين: النوع الأول هو التصوّرات التجريبية، أي المبنية على حقائق علمية؛ كأن نقول بأن الأرض تدور حول الشمس، وأن المطر ينزل الآن. وهي أمورٌ لا يمكن نفيها إلا بحقيقة علمية. أما النوع الثاني فهو التصوّرات الأخلاقية أو الافتراضية، أي غير المبنية على حقائق علمية، كأن نقول بأن تطبيق أحكام الإعدام على من يستحقها أمر جيد، أو يقول شخص من ثقافة أخرى إن تعدد الزوجات أمر لا أخلاقي.
ثم قام الفلاسفة بطرح ثلاثة أسئلة في غاية الأهمية للتعامل مع نوعي التصورات هذَين بفهم أعمق. السؤال الأول: هل يمكننا أن نحكم على التصورات التجريبية والأخلاقية أنها صواب أو خطأ؟ أم أنها مجرد آراء؟ السؤال الثاني: إذا استطعنا أن نحكم عليها بأنها صواب أو خطأ، فما الذي يجعلها كذلك؟ السؤال الثالث: إذا كانت صواباً، فهل هي صواب بموضوعية أم أن الأمر نسبي؟
ثم عرّفوا الموضوعية، وقالوا هي أن تكون أحكامنا، التي تحتمل الصواب والخطأ، مبنية على حقائق مستقلة تماماً عمن نكون، وعن ثقافتنا، وعن انتمائنا الاجتماعي. مثال: دوران الشمس حول الأرض حقيقة علمية عند الصيني والأميركي والإفريقي. ثم عرّفوا النسبية وقالوا هي أن تكون أحكامنا صواباً أو خطأً بناءً على نظرتنا إليها، ونظرتنا هنا نابعة من ثقافتنا وتراثنا ومعتقدنا، فقد تكون لشعبٍ ما صواباً، ولشعب آخر خطأ. مثال: تعدد الزوجات مقبول عند المسلمين ومرفوض عند المسيحيين، وأحكام الإعدام مرفوضة في أوروبا ومقبولة في كوريا الشمالية.
وأضافوا شِقّاً ثالثاً وهو العاطفية، أي أن تكون أحكامنا بالصواب والخطأ غير موضوعية أو نسبية، بل تعبير مباشر عن المشاعر. كأن يقول أحدهم: «الباذنجان كريه». هنا تنعدم صحة الحكم وخطئه، ويصبح الكلام مجرد تعبير سطحي وردة فعل لا عقلانية.
أردتُ أن أفرش هذه المقدمة الفلسفية المختصرة جداً لأتساءل عن طريقة تفكيرنا اليوم، وخصوصاً فيما يتعلق بالأسئلة المذهبية التي تتصدر ساحة الحوار في المنطقة ويبدو أنها آخذة في التمدد أكثر. فعندما يقول السنة– مثلاً - بأن ولاء شيعة الخليج المواطنين ليس إلا لإيران، فهل يقولون ذلك عن حقيقة علمية؟ أو دراسات استقصائية؟ ولنكن أكثر علمية في تحليلنا ونستخدم الأسئلة المذكورة سابقاً: هل هذا الحكم تجريبي أم موضوعي؟ الواضح أنه موضوعي حيث لا توجد حقيقة علمية تقول إن شيعة الخليج ولاؤهم لإيران. السؤال الآخر: هل يمكننا أن نحكم على هذا التصور بأنه صواب أم خطأ؟ أم أنه مجرد رأي؟ يبدو لي أنه مجرد رأي بَحْت.
وأخيراً، السؤال الأهم: هل الأمر حقاً موضوعي أم عاطفي؟ أعتقد بأنه عاطفي، لأنه تعبير مباشر عن مشاعر أُناس تمت تغذية عقولهم عبر السنوات، على المنابر وفي القنوات، بأن كل شيعة الخليج ولاؤهم لإيران ويجب قتالهم ومحاربتهم؛ والنتيجة المتوقعة كانت التفجيرات الإرهابية التي حدثت مؤخراً في السعودية والكويت.
كلامي هذا ليس دفاعاً عن الشيعة وليس هجوماً على السنة، بل محاولة لتشخيص طريقة تفكيرنا تجاه قضية ما. فعندما تقود سيارتك فإنك تعتقد جازماً بأنك تقود على اليمين ذاهباً، والآخر يقود على اليسار قادماً عكس سَيْرك. ولكن انتظر قليلاً وفكّر: الآخر أيضاً يرى نفسه يقود على اليمين ذاهباً، ويراك تقود على اليسار قادماً، فمن منكما على صواب؟ من منكما يقود على اليمين؟ الحقيقة في غالبية الأحيان نسبية وليست مُطْلقة، فما تراه صواباً لا يعني أنه صواب عند الآخر، وبالتالي سعيك لفرض رأيك عليه أو محاولتك للتغلب عليه لن تفلح لأنه عمل لا يتماشى مع نواميس الكون وقوانين الحياة القائمة على التنوع والاختلاف.
في هذه الصراعات الطائفية هناك منتصران اثنان فقط، إما الموت أو العقلانية، فلنختر أيهما نريد للأجيال القادمة.
إقرأ أيضا لـ "ياسر حارب"العدد 4690 - الجمعة 10 يوليو 2015م الموافق 23 رمضان 1436هـ
بحراني محايد
شكراً أستاذ ياسر
من الجدير بالذكر إن في تقرير لجنة تقصي الحقائق في البحرين - إذا سمعت عنها- صرح رئيس اللجنة الدكتور بسيوني بأنه لم يجد دليل واحد يثبت دعم إيران للأحداث في البحرين
احسنت
بوركت أستاذ حارب
دائماً مبدع في كتاباتك
للأسف البعض يظن أن الآخر لا يفكر وتابع ويقدّس ، بينما لو نظر لنفسه سيجد هذه الصفات كلها تنطبق عليه !
صح لسانك
صح لسانك يا ولد حارب والله يكثر من أمثالك ، بالواقع نحتاج مزيدا من هذا النوع من التفكير لوعي الاجيال القادمة ، كفانا يا مسلمين يا من نحمل رأية الاسلام وبالمقابل نمزق بعضنا بعضا تحت عبارات التفريق والطائفية ،، لماذا لا نتحد ونرفع رآيات الاسلام عليا ،،، بنت الموسوي
العقلانية اكيد
كلام منطقي جدا لكن نسيت تذكر انه في سياسة الغاء الاخر هي سياسة رسمية بدليل تدريسها في مدارسكم
ممرض عاطل
البعض يعتقد أن الأصرار على رأيه المتعصب والخاطئ "ثباتاً على الحق وأنه لا يخاف لومة لائم" وما هؤلاء الذين يحاولون تغيير رأيه إلا "ضالون منحرفون". ولذلك فهو يقفل كل نوافذ الحوار معه. مثل هؤلاء ليس لهم حل إلا الكي كما يقول ابن سينا