في الديمقراطيات العريقة وعند المنعطفات التاريخية تحديداً، تحتكم سلطة القرار التي تحترم نفسها إلى شعوبها التي تستمد منها الشرعية، فتشركها في إبداء الرأي واتخاذ القرارات المصيرية. وهذا ما فعلته حكومة اليسار اليوناني التي يترأسها أليكسيس تسيبراس، حين استفتت جماهيرها بشأن خطط الإنقاذ وشروط التقشف لمواجهة أزمة الديون التي يفرضها الدائنون من دول «الترويكا»، وهم «المفوضية الأوربية» و»صندوق النقد الدولي» و»البنك المركزي الأوربي»، حيث جاء مؤشر تصويتهم بـ»لا» كبيرة وفاقعة ضد المزيد من خطط التقشف وإجراءاتها، تماماً كما أرادها ودعا إليها الحزب الحاكم الذي احتكم للديمقراطية للتعبير عن موقف أغلبية اليونانيين، لم لا وبلاده كانت مهداًً لأقدم الديمقراطيات التي شهدها التاريخ.
أزمة الديون اليونانية في جوهرها ليست أزمة تمويل وإقراض فقط، إنما هي أزمة أخلاقية وسياسية بامتياز، تعكس طبيعة العلاقة بين دول الشمال الغنية والجنوب الفقيرة، وهي تعبير صارخ عن رغبة بعض القادة الأوروبيين ولاسيما الصقور الألمان منهم، في التخلص من حكومة تسيبراس، كونها تتعارض ونموذجهم الاقتصادي والسياسي الذي يتسم بالتوحش الرأسمالي واللامساواة وانفلات سلطة رأس المال من الضوابط الاجتماعية والإنسانية. كما يعبّر عن رغبة دفينة بإخراج اليونان من منطقة اليورو تدريجياً بسبب مشاكلها المستمرة، إضافةً إلى كونها –أي الأزمة- تدور حول مستقبل العملة الأوروبية الموحدة. ترى ما تأثير أزمة الديون على اليونان وعلى علاقتها مع الدائنين؟ وهل ستنقذ نتيجة الاستفتاء بـ»لا» اليونان من مصير الإفلاس وتثبت بقاءها في منطقة اليورو؟
تتعدد الآراء وتتباين حول الأزمة وتأثيراتها، وثمة تحليلات تجد إنه لا انتصار تحقق لمن شارك في الاستفتاء بـ»لا» أو «نعم» للشروط التي وضعتها دول «الترويكا»، وذلك بسبب ما تعانيه اليونان التي أوقفت مفاوضاتها الأخيرة مع الدائنين لشروطهم «العقابية» ورفضهم لمقترحاتها التي تضمنت تعديلات على تلك الشروط، فضلاً عن رفضهم تمديد برنامج المساعدات المالية لمدة عامين وإعادة هيكلة الديون كي تتجنب عجز السداد، خصوصاً أن ألمانيا لم تشأ التفاوض على أيّ مما سبق، الأمر الذي دفع أليكسيس تسيبراس إلى استفتاء الشعب كي يبت بقبول هذه الشروط أو رفضها.
إن رفض حكومة اليونان التوقيع على شروط تتضمن إجراءات التقشّف، يعني ما يعنيه من رفضها لخصخصة القطاع العام والمسّ بمعاشات ورواتب التقاعد وفرض الضرائب، وعدم القبول بأي اتفاق لا يخفض ديونها ويعيد هيكلتها التي تسمح بحصولها على قرض بقيمة 29 مليار يورو يسعفها في تغطية مدفوعات خدمة الدين المستحقة للعامين القادمين، لاسيما وإن السياسات والشروط التي أملتها الترويكا عليها خلال السنوات الماضية قد أدت إلى حالة اقتصادية واجتماعية كارثية، تمثلت بديون مستحقة عليها تتجاوز 320 مليار يورو، وبما يمثل أكثر من 170 في المئة من ناتجها الإجمالي الذي تقلص حسب التقارير بنحو 25 في المئة.
كما يستوجب عليها الاستمرار بسداد تلك الديون حتى العام 2057 ما يعنى أنه «دين مستدام»، إضافةً إلى انخفاض متوسط عائد الفرد بأكثر من ثلاثة آلاف يورو، وتجاوز نسب بطالة الشباب أرقاماً قياسية بلغت 60 في المئة، في حين إن نسبة 40 في المئة من المتقاعدين يعيشون تحت خط الفقر. هذا ويؤخذ على الدولة عجزها في معالجة معضلة التهرب من جباية الضرائب والمحسوبية والنفقات المرتفعة في الميزانية، فيما تتنصل المفوضية الأوروبية وصندوق النقد الدولي والبنك المركزي الأوروبي من مسئوليتهم حين يطالبون اليونان برفع الفائض الأولي من ميزانيتها إلى نسبة 3.5 في المئة من الناتج المحلي حتى العام 2018، الأمر الذي يعني تعظيم حصة خدمة الدين العام من الموازنة على حساب بقية أوجه الإنفاق العام الاجتماعي والاستثماري. وهو ما اعتبره المحللون إملاءات عقابية من الدائنين، وإن تطبيقها سيقود إلى ركود اقتصادي، إلى جانب أن جزءًا من أموال «المساعدات» التي تلقتها اليونان لم تذهب إلى خزائنها، إنّما تم دفع مبالغ ضخمة منها للمقرضين في القطاع الخاص كالمصارف الألمانية والفرنسية؛ ما يعني أن اليونان دفعت ثمناً باهظاً بحسب الخبراء، لتعويم النظام المصرفي في هذين البلدين.
أما من حيث تأثيرات نتائج الاستفتاء التي جاءت بنسبة 61.2 في المئة لصالح رفض إجراءات التقشف وشروط الدائنين، فقد رآى بعض المحللين بأنها تنطوي على مخاطر كبيرة، على الرغم من استعادة اليونان لقرارها وحصول حكومتها الحالية على تفويض قوي قد يساعدها على انتزاع اتفاق أفضل مع الدائنين، وهو يعني ما يعنيه أيضاً من رفض اليونانيين للغطرسة ومحاولات الإذلال والوصاية الأوروبية على طريقة حياتهم ومداخيلهم ومستقبلهم واحتقارهم لمفهوم السيادة الوطنية ولديمقراطية الشعب.
إنه الرفض المعلن لـ «النيوليبرالية» والنظام الرأسمالي المتوحش، كما إنه لا يعني خروج اليونان أوتوماتيكياً أو بالقوة من منطقة اليورو حسب رغبة بعض الأطراف، إذ لا معاهدات أوروبية تتيح ذلك، لكنه إن حدث وخرجت، فستواجه سنوات صعبة وسيكون لهذا الخروج تداعيات سياسية وخسائر مالية وجيوسياسية لواشنطن وحلفائها، خصوصاً حين تتقارب اليونان أكثر فأكثر مع روسيا والصين.
أما لمن اتخذ خياره بـ«نعم» في الاستفتاء، وهم نسبة ليست ضئيلةً أيضاً، فإن تصويتهم لا يعني بالضرورة التصويت لقيادة برلين لمشروع العملة الموحدة الذي يضم 19 دولة من بين 28 دولة، فـ»النعم» حسب الفهم اليوناني تعني رغبة البقاء في منطقة اليورو وليس مع «التقشف» الذي يطلق عليه الدائنون عبارة «إصلاحات». وفي كل الأحوال، فإن استمرار الرضوخ لإرادة وشروط الدائنين سيؤدي إلى ركود لانهائي، قد يغرق البلاد أكثر في أزمتها، ويضطرها إلى بيع أصولها الثابتة وهجرة شبابها.
خلاصة الأمر، إذا كانت التوقعات بشأن دخول اليونان في مرحلة المجهول وعدم الاستقرار السياسي بسبب حالة التقشف والضغوطات التي تُمارس عليها، فإن الحاجة غدت أكثر من ملحة بل ومشتركة بين الطرفين لبلورة مواقف أكثر مرونة وللوصول إلى اتفاق طالما ظلت الكرة في الملعب اليوناني الذي يضبط قواعدها، خصوصاً وإن مخاطر الأزمة قد تؤثّر على تراجع اليورو مقابل الدولار، واحتمال انتشار مخاطر عدوى الأزمات المالية التي قد تدفع ببلد مثل إسبانيا التي تعاني من بطالة حادة كاليونان، وكذلك إيطاليا، للمطالبة بنفس المطالب.
إن انتصار حكومة اليونان في معركتها مع الدائنين يعني اختباراً حقيقياً لدول الاتحاد الأوروبي كي تظهر احترامها للديمقراطية ولرأي الشعب اليوناني.
إقرأ أيضا لـ "منى عباس فضل"العدد 4687 - الثلثاء 07 يوليو 2015م الموافق 20 رمضان 1436هـ
احم احم
هو انتي شايفة الاوربيين مضايقين من تراجع اليورو ؟ الاوربيين والغرب اتراجعت عملتهم هم مستفيدين وان ارتفعت بعد هم مستفيدين ؟
واليونان ما راح تخرج من الاتحاد ؟
هم الاوربيين مستفيدين من انخفاض اليورو في اغراض تجارية وهم مستفيدين من القوة الشرائية لارتفاع اليورو ؟
لكن احنا المفلسين للحين قاعدين نسمع الاخبار وانحلل الاخبار وللحين محنا عارفين لا مشكلة العالم والكارثة محنا عارفين حتى مشكلة البحرين اللي عدده ما يتجاوز مليونين ومساحته اقل من الف كيلو متر