يكافح النقد اليوم لإزالة سوء الفهم الذي يحدث نتيجة قيام المتخيل العام برسم صورة للنقد على أنه تبيان للعيوب والمثالب، أو في أحسن تقدير تبيان الحسنات والسيئات، وهي صورة تهكمية فيها الكثير من استخدام الألفاظ ذات الدلالة العاطفية التي تجيش ضد النقد، كفكرة أن الناقد إما أن يكون شاعراً فاشلاً أو سارداً فاشلاً أو مبدعاً فاشلاً، تأكيداً على تبعية النقد وفشل الناقد كمبدع، بينما نؤكد نحن كون النقد جزءاً لا يتجزأ من الإبداع ذاته، وبالتالي يحاول النقاد رسم صورة تقترب من العلمية عن مجالهم، ربما في محاولة لتقليد الأنماط العلمية وإزاحة تلك الشحنة الدلالية السلبية المتوارثة عنه.
ولعل الاستقصاء في مقولة الناقد مبدع فاشل، تحيل مباشرة إلى سؤال مغاير تماماً يوظف في صالح مثل هذه المقولة، مثل وجود فشل ما عند بعض النقاد أو فشل في بعض بحوثهم النقدية. ولعلنا نضع أيدينا على ذلك الفشل عندما نقول بتعقد النقد وخصوصاً البنيوي وبعض البحوث الاسلوبية التي تلجأ إلى الإحصاءات التي لا تؤدي إلى اختراق النص وتقريبه للقارئ. وفشل الناقد في هذه الحالة لا يؤكد مقولة كونه مبدعا فاشلا، ولعله يؤكد مقولة كون الفن بعامة يقاس بقممه وليس بقيعانه، ولكن تلك القيعان ضرورية لتمييز القمم، ولا يمكن بأي حال من الأحوال اعتبار الناقد خارجاً عن إمكانية ارتكابه الخطأ.
وعلينا أن نميز بين الخطأ والفشل في هذا الصدد، فالفشل حالة كلية يمكن أن تصاحب مجموع المجهودات التي يقوم بها الناقد، ولكن قد يخطئ من يتصور أن الناقد لا يخطئ، وربما يرتكب خطأ بمجرد أن يتبنى التصور السابق. صحيح أن المنطق قد يحمي الفكر من الوقوع في الزلل ولكنه يفعل ذلك بتقليل الاخطاء قدر الممكن وبشرط أن لا يكون هناك خطأ اصلي في المنطق ذاته. وعلى رغم أن قوانين المنطق تغيرت بعد عصر النهضة فإن هناك الكثير من الناس الذين مازالوا يستخدمون المنطق القديم بعيوبه، كما أن أغاليط الفكر مازالت تعمل، وإن استبناها عند السياسيين أكثر ولكنها تعمل حتى عند النقاد أنفسهم.
بعد أن تناولنا فلسفياً الحجج التي تحاول تقويض النقد بعامة والنقد الأدبي بخاصة في مجتمعنا الحديث هناك من الحجج التي تقوم على أساس مغالطة رجل القش، وهي مغالطة مشهورة في الخطاب السياسي، لعل من يستخدمها يدرك من خلالها أن الانحياز الشديد يقوم عبر حرف مسار الحوار، من كونها تدور حول فكرة يطرحها الشخص إلى اتهام الشخص ذاته، وعندما يقول (س) من الناس أن هذه القصيدة يعتورها خلل يحاول إيضاحه من خلال شواهد قائمة في العمل، يعمد المحاور إلى لصق تهمة بالناقد مثل تهمة العلمانية السائدة هذه الايام، فينتقل محور الحديث عن العمل الأدبي إلى أن الناقد شخص علماني، وبالتالي هو شخص مكروه خبيث، ومن هنا تتم مصادرة كل منطق يمكن أن يقوم من خلال حجته التي يطرحها، وتجبر مغالطة رجل القش المحاور على أن يقوم بمناورة للدفاع عن ذاته او للتخلص والتملص تاركاً موضوع النقاش الأصلي، وبالتالي تضيع الفائدة من الحوار أصلاً.
إن فكرة كون الناقد أديباً فاشلاً، هي من نمط مغالطة رجل القش، فبدل أن ينصب النقاش على ما يطرحه الناقد يتحول الموضوع إلى ذم الناقد ذاته باعتباره أديباً فاشلاً، ومادام كذلك فكل ما يقوله يدخل في باب الفشل، إنها من التعميمات التي تنتشر عند عامة الناس بسرعة على اعتبارها ذاهبة ضداً على الحفر المعرفي الذي يجعل أدبية الأدب موضوعه، ويعتقد بذلك كثير من الناس من دون إعادة التفكير في العبارة، وانما يستشعرون موقف القوة الأخلاقي ضد الناقد بوصمه بالفشل، وبالتالي يبحث كثير من الناس عن تلك الانماط من الحجج التي تحيل الحوار من مناقشة إلى اتهام، وبمجرد أن يتحول أي نقاش إلى اتهام إنما يخرج من كونه حواراً في الأصل وتبدأ معركة لا علاقة لها بموضوع النقاش.
ليس غريبا أن يكرر البعض مقولات يعتبرها على نمط النص العالم الذي يحوي كل المعرفة ويتشبه بالمثل الشعبي الذي يتشبث أصحابه بمقولة إن الأمثال لا تعارض، بينما الأمثال تعارض بعضها بعضاً «في العجلة الندامة/ خير البر عاجله» ومنها أن الناقد أديب فاشل. وفي الحقيقة لا أعرف أي علاقة تربط بين الناقد والفشل في المجال الإبداعي، وعلى النقيض من ذلك سبق أن أشرنا إلى كون الناقد من المبدعين ويشتغل في دائرتهم.
إن اللجوء إلى عبارات تعميمية كلية غير مفكر فيها بكفاية تحيل إلى مديح الجهل مهما كان قائلها. ولعل أبلغ رد على عبارة كون الناقد أديباً فاشلاً هو سلسلة الأسماء التي دخل أصحابها إلى المجال النقدي وظلوا مبدعين ومنهم على سبيل المثال في الشعر (نازك، أدونيس، بنيس، عزالدين المناصرة... الخ)، مع وجود نقاد في العربية لم يعدوا في الشعراء (سعد يقطين، محمد لطفي اليوسفي، صبحي حديدي... الخ). ولو نظرنا إلى الرواية لوجدنا أن الموضوع ربما مختلف بعض الشيء. وعلى رغم أن بعض الروائيين كتبوا في النقد امثال (زهور كرام، محمد برادة، كيليطر، عبدالله العروي، صدوق نورالدين، معجب الزهراني، نبيل سليمان، واسيني الأعرج، عبدالرحمن الربيعي، رضوى عاشور وغيرهم) فإما كانوا مشهورين أكثر باعتبارهم روائيين أو كانوا مشهورين اكثر باعتبارهم نقاداً. ولعل وجود النقاد المبدعين في النقد ومجالات الإبداع الاخرى ينسحب على مجموعة من النقاد وبالتالي تسقط امام وقائعية الحال تلك التهمة بكون الناقد أديباً فاشلاً، والتي عادة ما يتغنى بها الكثير من الاشخاص في الندوات النقدية.
ولعل هناك مساحة واسعة من هذه العبارات التي باتت تعتبر منهاجاً لكل من يسخر من النقد الأدبي في المستوى الشعبي. ومن تلك العبارات «الناقد يعيش على مائدة المبدع»، وهي ترتكز على عدم انتماء الناقد لمجموعة المبدعين، والعيش على مائدة المبدع تحيل في الثقافة العربية إلى ذلك الذل الذي يصيب الكرام على موائد اللئام، ولكنها تفترض العكس فالمبدع هو الكريم والناقد هو اللئيم، ولا مجال هناك لكون الكريم من يكرم الكريم، أو لتصور بحث الناقد في أدواته واستقلاليته عن النص الابداعي بممارسة نقد النقد. كما يطرح بعض المبدعين عبارة مثل»النقد هو تسمية الشتائم بالبنيوية»، ويبدو لنا أن البنيوية ساهمت مساهمات حقيقية في خدمة النص وأنها استطاعت التمدد إلى ثقافات اخرى حالها حال الواقعية، بينما لم تستطع بعض المدارس المحلية ذلك التمدد لارتباطها بإحيائية نابعة من خصوصية في الثقافة مثل الكلاسيكية الاوروبية (صلاح فضل: منهج الواقعية في الابداع الأدبي، دار المعارف، القاهرة، ط 2، 1980م. صفحة5).
ولعلنا نجد تلك العلاقة بين مثل تلك المقولات التعميمية وبعض الاحكام المطلقة التي يتوصل لها النقاد بأنفسهم مثل مقولة موت المبدع، فالاعتبار بشكل مخصوص يتعلق بتلك الحالة التي تربط المبدع بنصه بعد الفراغ منه، وعلاقة النص بمسألة القراءة. وبالتالي يتحول المبدع من مبدع إلى قارئ آخر للنص حاله من حال كل القراء الذين سيصادفون النص ذاته. ولعل ذلك التعميم في ظاهر التجربة الحياتية يصطدم بوقائعية المعرفة التي مجدت كتاباً حتى بعد غيابهم الحقيقي بالموت الجسدي، ولكنهم خلدوا في الثقافة على اعتبار أننا ننظر إلى شكسبير، همنغواى، وسعدالله ونوس، غسان كنفاني وآخرون يشكلون سلسلة طويلة من المبدعين باعتبارهم مازالوا في الذاكرة الجمعية على رغم مقولة موت المؤلف التي يعرفها كل مهتم بالنقد الأدبي.
ومن الممكن أن نمدد فكرتنا عن الناقد على اعتبار أنه متخصص يقدم معرفة ما لجمهور من المهتمين. ويبدو أن الفكرة السابقة تقف حجر عثرة أمام بعض مهام النقد التي تتضح في عملية تجسير بين النص والقارئ العادي، وذلك مرده إلى المعرفة المتخصصة. ولكن ليس كل ما يكتبه الناقد يظهر تلك المعرفة المتخصصة. ونجد تلك المعرفة المتخصصة تسكن في البنية العميقة الثاوية في خلفيات الكتابة النقدية التطبيقية، ولعلها تعطي مثلاً عملياً على التحليل أو التركيب أو التفكيك، ما يحفظ للنص النقدي أن يلعب أدواراً مزدوجة تمس بعضها عموم المتلقين وتخص بعضها المتخصصين. ولعلي أعطي مثلاً هنا عندما قامت الناقدة يُمنى العيد بنقد البنيوية في كتابها فن الرواية العربية بين خصوصية الحكاية وتميز الخطاب، حيث أوضحت أن البنيوية في تجليها اكتفت بالتفكيك وأن اعادة تركيب وإنتاج البنية النصية من عناصرها المفرزة، واعتبرته تقليدا للبنية، وفي أحسن الأحوال هو تكرار لهيئة البنية، وذلك ما يجعل البنيوية عاجزة عن إدخال النص في الثقافي المعرفي (يمنى العيد: فن الرواية العربية بين خصوصية الحكاية وتميز الخطاب، دار الآداب، بيروت، ط1، 1998م. صفحة8) ولكنها في التطبيق اعطت مثالا عن معنى تحولات الادب في الحرب اللبنانية ودلالاتها العميقة.
العدد 4683 - الجمعة 03 يوليو 2015م الموافق 16 رمضان 1436هـ
يمكن أن نوافق على أن ( المناصرة وأدونيس ) تنطبق عليهما صفة ( الشاعر العظيم- الناقد العظيم ) لأن منجزهما النقدي نوعي.وكلاهما شاعر عالمي تقريبا .
الشاعر والناقد
الشعراء ( أدونيس- عزالدين المناصرة - نازك الملائكة -محمد بنيس )....
- أدونيس والمناصرة شاعران كبيران مهمان... بنيس والملائكة شاعران جيدان.
-أدونيس- المناصرة - بنيس... نقاد كبار.. أما نازك فهي ناقدة جيدة.
- الدكتور احسان عباس... شاعر فاشل تحول الى ناقد كبير. وهناك شعراء فاشلون تحولوا الى ( نقاد فاشلين حاقدين ).وهناك نقاد ولدوا جيدين وظلوا جيدين .
وفي الخلاصة : يمكن تشبيه ( أدونيس والمناصرة ب ت .س.اليوت : شاعر وناقد ناجح ).