منذ العدد الأول في نهاية ثمانينات القرن الماضي؛ حيث ضمَّ نصوصنا الأولى فترة تأسيس اتحاد كتَّاب وأدباء الإمارات، حرصتْ مجلة «شئون أدبية» على الاحتفاظ بجدِّيتها ورصانتها، واستقطابها للأسماء العربية المهمَّة والكبيرة، بحيث احتوت معظم تلك الأسماء في أغلب بلدان العالم العربي، وحتى أولئك الذين هم في المهجر.
السمة الأخرى لتلك الرصانة والجدِّية، محافظتها على ملفها الدوري، الذي بدأ ربما بعد عدد أو عددين. ملف يتناول اتجاهات الأدب والإبداع العربي على اختلاف توجهاته وألوانه، ضمن ممارسة نقدية منهجية، يحتل فيها الملف ربع صفحات الإصدار إن لم تزِد على ذلك.
في عددها الثامن والستين، لشتاء العام 2015، قفزت المجلة إلى مراحل مُتوقعة، بطبيعة البدايات الصعبة والمنهكة التي اختطتها لنفسها، بحفاظها على تلك الرصانة والجدية أولاً، وثانياً لأن أسماء وطنية إماراتية شبابة جديدة تولَّت المهمة، وبرز بعضها في طبيعة نتاج المجلة في أغلب أعدادها اللاحقة، وهو حرص لم تكن المجلة لتتخلَّى عنه؛ بل تُشجِّع عليه وتُوليه جلَّ اهتمامها. بعض تلك الأسماء كان في بداياته يوم أن دشَّنت المجلة عددها الأول، بعضها ظل ساهراً على تجربته ففرض نفسه حافراً اسمه وحضوره في المشهد الإبداعي الإماراتي، وصار في مقدمة ذلك المشهد، ورقماً صعباً في خريطة التناول والدراسة؛ وبعض تلك الأسماء تجاوز دائرته المحلية إلى دائرة عربية أكبر وأوسع.
بين النشأة والتطوُّر
بالعودة إلى الملف الذي امتازت به المجلة، تفتتح الباحثة المصرية فاتن حسين الملف بـ «القصة القصيرة بين النشأة والتطوُّر حتى يومنا هذا»، بدأته بتاريخية نشأة القصة، وهي تاريخية موغلة في ذهابها وقِدَمها، تناولاً لخصائصها والموضوعات التي تتناولها والمواقف التي تُعْنى بها؛ وخصوصاً منذ نشأة ملامحها الأولى ومراحل تطورها؛ وصولاً إلى العصر الحديث؛ فكان لابد من البدء بالملحمة، التي سبقت القصة إلى الوجود «فوجدت في الملحمة عناصر، مهَّدت للنثر القصصي الخيالي في الأدب اليوناني»، مروراً بالمؤسس هوميروس، من خلال المجازفات التي قامت بها الشخصيات في (الأوديسا)، ما استدرج التجارب الإنسانية إلى أدب الخيال - بطبيعة الحال - وحتى ظهور «بشائر القصة في الأدب اليوناني، في أشعار الرعاة، وحكايات الرحَّالة عن الإسكندر الأكبر، فظهر النثر القصصي».
وتعرِّج فاتن حسين على الأدب الروماني، الذي ظهرت فيه القصة في أواخر القرن الأول بعد الميلاد، في اتجاه مخالف ومضاد للقصة اليونانية أول الأمر، لتدخل مرحلة التأثر، وقوفاً على نموذج قصة «أبوليوس» «في مسْخ الإنسان إلى حيوان، ثم إعادته إلى حالته الأولى» ولم تبرح القصة باتجاهها ذاك أصلها الملحمي. وتأخذنا الباحثة بتلك المقدمة التاريخية إلى القصص في الآداب الأوروبية، منذ عصر النهضة؛ حيث نشأت ونمتْ معتمدة على ما وصل إليها من التراث الشرقي والأدب اليوناني والروماني، «وتأثرت كذلك بروح المسيحية، وكثيراً ما اعتمدت على الأساطير والجنيَّات وخوارق العادات».
مصنع الأكاذيب
وفي انتقالها إلى المحاولات والمراحل التي حدثت للقصة للخروج من مراكز التأثير الأولى، محاولة منها لإبراز روحها الخاصة، معبّرة عن المكان والبشر وقضاياه، تشير الباحثة إلى المحاولات في تاريخ الآداب الغربية لكتابة القصص القصيرة؛ من حيث شكلها فقط، في القرن الرابع عشر الميلادي في روما داخل حجرة فسيحة من حجرات قصر الفاتيكان، وكانوا يطلقون عليها اسم «مصنع الأكاذيب»، ففيه كانت تُخترع، أو تُقص كثير من النوادر الطريفة، عن رجال ونساء إيطاليا، وحتى عن البابا نفسه؛ ما دعا الكثير من الأهالي إلى التردُّد على هذه الندوات، حتى لا يُهزَأ بهم في غيبتهم، وكان من أكثر رُوَّاد مصنع الأكاذيب مثابرة وأخصبهم خيالاً، رجل غريب الأطوار، اسمه بوتشينو، «حيث كان يعمل سكرتيراً للبابا، ثم تزوَّج وهو في السبعين من فتاة في الخامسة عشرة، وبدأ بهذا الزواج حياته الأدبية، فدوَّن النوادر التي قصَّها وسمعها، في مصنع الأكاذيب، فأعطاها بذلك شكلاً أدبياً أسماه (الفاشيتيا)، وتعني القصة القصيرة المسلية أو المضحكة».
هذا الشكل من القصة المسلية والمضحكة (الفاشيتيا) ازدهر ونما ووجد امتداده وشعبيته في إيطاليا، وتحديداً بين الأعوام 1400 - 1450. وفي القرن الرابع عشر أيضاً كانت إيطاليا على موعد مع محاولة جيوفاني بوكاتشيو، وهو صاحب قصص «الديكاميرون».
قصص الرعاة
كان لبوكاتشيو أثره في القفزات التي حققتها القصص في ما بعد، لما احتوته موضوعاتها من قضايا الحب، وبلغة وأسلوب يثيران الضحك؛ لتشهد أوروبا بعد ذلك قصص الرعاة، بالمشتركات التي تلتقي فيها مع قصص الفروسية والمرامي الأولى لها «مثالية الحب»؛ حيث الغابة مسرح أحداثها.
وتمر الباحثة بالإشارة إلى أول من ألَّف قصص الرعاة في عصر النهضة، وهو الشاعر والكاتب الإيطالي «سنزار» في قصته «أركاديا»؛ في عدوى جميلة انتقلت من الأدب الإيطالي إلى الإسباني ومن ثم الإنجليزي، وبعد ذلك إلى الأدب الفرنسي، من خلال الأديب الرائد «أنوريه دُور» فيه في قصته «أستريه».
تنتقل الباحثة فاتن حسين بعد ذلك إلى المرحلة التي ازدهرت فيها الكلاسيكية؛ وتحديداً في القرن السابع عشر؛ حيث كان للقواعد العقلية تأثيرها في المسرح خصوصاً؛ باعتنائه بمنهج التحليل النفسي؛ العاطفي منه خصوصاً. نجد شواهد ذلك في أعمال راسين؛ التي افتتحت أفقاً للقصة النفسية. وفي القرن الثامن عشر «ظهرت قصص تهجو الطبقات الاجتماعية المختلفة»؛ الأمر الذي أتاح للقصة تضمّنها طاقة فكرية واجتماعية كبرى؛ ليقوم الاتجاه أو المذهب الواقعي ومن بعد ذلك، الطبيعي «على أنقاض المذهب الرومانتيكي، فقرَّبت القصص من الواقع، وبدأ يختفي المؤلف وراء العالم الواقعي الذي يصوره تصويراً موضوعياً».
وتشير الباحثة إلى أنه منذ الواقعية والطبيعية، اكتمل مفهوم القصة الحديثة؛ وذلك بتلاقي واقعية بلزاك، مع طبيعة زولا. وفي مسايرة لما عداهما من مناهج وتيارات، تم الالتقاء بطبيعة الموضوعات التي تم طرحها وتناولها ومعالجتها؛ فكان أن التقت الواقعية والطبيعية مع الوجودية والواقعية الجديدة، بنشوء قصص التحليل النفسي، وتجلَّى هذا الاتجاه في الأدب الروسي في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. وتورد هنا شهادة ديستويفسكي، في تناوله لقصص معاصرة، متحدثاً عن تولستوي «لقد قام الكونت تولستوي بعمل إنساني هائل في تحليل النفس البشرية، فبرهن لنا على أن الداء خبئ في الإنسانية، وأنه أعمق كثيراً مما يعتقده الأطباء وعلماء الاجتماع، وأن جذوره غائمة متمكنة، لا في نظام اجتماعي معيَّن، ولكنه في النفس الإنسانية، في ذات الإنسان».
نشأة القصة القصيرة في مصر
في مطلع القرن الماضي، كان للترجمة دورها الكبير في تقديم نماذج مناهجها ومدارسها واتجاهاتها في العالم، وكان للرائد رفاعة الطهطاوي دور كبير في هذا الاتجاه؛ وبحسب المصادر فقد قام بترجمة نحو ألفيْ كتاب. ذلك من جانب. من جانب آخر، عَمَد أمين دار الكتب في بيروت إلى جمع عشرة آلاف قصة «قبل العقد الخامس من القرن الماضي». وبحسب الأديب المصري يحي حقي، كان الشعب المصري لا يحس بالغربة إذا اتصل بفرنسا، كما يحس بها إذا اتصل بإنجلترا «وهذا من أثر تقارب التيارات الثقافية بين الشعوب في حوض البحر الأبيض المتوسط. وتشير الباحثة إلى أن «بعض كُتَّاب فرنسا لعبوا أدواراً سياسية في حياة بلادهم، وأصبح اسمهم رمزاً للحركات التحرُّرية وذاع صيتهم مثل هوغو، الذي ترجم له حافظ إبراهيم (البؤساء)، وتبعه المنفلوطي، فلم ينقل إلا عن الأدب الفرنسي».
وبعدها تعرِّج الباحثة على أسماء صنعت الواقع الثقافي والإبداعي القصصي في مصر أمثال: محمد حسين هيكل وقصته «زينب»، ومحمد ومحمود تيمور، وعمتهما عائشة التيمورية «التي تعتبر أنموذجاً لثقافة المتعلمات من بنات الأثرياء في ذلك العهد»، وعباس محمود العقاد، وتوفيق الحكيم.
المدرسة الحديثة
وتذكر الباحثة المصرية فاتن حسين في عنوان «ظهور المدرسة الحديثة»، أنه مع مطلع القرن العشرين، كان هناك اهتمام محدود نسبياً بالقصة القصيرة؛ وقد عكس من يحكمون الذوق الأدبي فكرة شائعة، تقول بأن القِصَر الشديد للقصة وملمحها الصحافي، يجعلان من المشكوك فيه أن تنتمي تماماً إلى تيار الأدب الجاد فلم تظهر قبل الأربعينات، دراسة أكاديمية جادة للقصة القصيرة».
لم تفِ الترجمة بملء الفراغ، بظهور تجربة عربية تنطلق في موضوعاتها وتناولاتها من طبيعة البيئة العربية وإشكالاتها، وثقافتها الغنية الممعنة في الثراء، مع الخروج بتجارب هي من طبيعة العصر. مع أواخر أربعينات القرن الماضي، وبشكل أكثر تحديداً، بعد يوليو/ تموز 1952 «ظهر جيل جديد من الكتَّاب الموهوبين، ذوي الفكر الثوري، التقطوا خيط القصة الواقعية من حيث ترِكتُه (المدرسة الحديثة)، وكان أكثرهم شهرة يوسف إدريس، فقد جرَّب هذا الكاتب المتقلِّب أشكالاً جديدة بلا توقف؛ سواء في مجال القصة القصيرة أو الرواية أو المسرحية، ولم يخضع لمدرسة بعينها».
لم يتبع إدريس خط المدرسة الرومانسية؛ بل عمل على مقاومتها عند الكتَّاب الذين كانوا معاصرين له، وكانت فرصة كبيرة يوم أن قدَّمه الشاعر إبراهيم ناجي الذي كان يحرر مجلة «القصة» «فكشفت بعض قصصه عن متذوق رفيع للكتَّاب الروس، وخاصة تشيكوف وغوركي وديستويفسكي، وكان يبحث دائماً عن الشخصية القومية».
كان لإدريس اليد الطولى في بلورة مرحلة جديدة للقصة القصيرة في مصر. ومع صدور مجموعته الأولى «أرخص ليالي» في العام 1954، استمرت مجموعاته ورواياته ومسرحياته لترسم ملامح ذلك العهد.
قراءات مُكثَّفة للنصوص
ملف «أدب الشباب في مصر... المشهد السردي»، تضمن قراءات مكثفة لنصوص جاءت بحسب ما ورد في ترتيب الملف: «كما يذهب السيل بقرية نائمة» لمحمد عبدالنبي، «البهجة تحزم حقائبها» لمكاوي سعيد، «شبح طائرة ورقية» لهشام أصلان، «فرق توقيت» لهشام عبدالمجيد. وليس بعيداً عن الملف قرأ الناقد والباحث واستاذ النقد والبلاغة في جامعة بني سويف، مدحت الجيَّار رواية «فاصل... للدهشة» لمحمد الفخراني، تناول فيها هامش الواقع... متن النص، ليمتد الملف بنماذج من القصص لكل من عادل العجيمي في «أبواب»، ومحمد الفخراني في «الرجل الذي اشترى العالم».
تبويبات العدد
سبق ملف أدب الشباب في مصر (المشهد السردي) تبويبات متنوعة من بينها الشعر؛ حيث شاركت شيخة المطيري بنص «بحر السحاب»، وعبدالرحمن الإبراهيم بـ «هواجس الياسمين»، وآمنة محمد الشحِّي بـ «الهواء بأشرعته»، ومحمد محمد عيسى بـ «من ذاكرة النفي».
وفي باب القصص، شاركت أسماء الزرعوني بـ «قصص قصيرة جداً»، محمد المزيني بـ «متوالية الغياب والعودة (2)»، وليد الزيادي بـ «لوحة وطن»، مريم الرميثي بـ «في يدي سحابة»، وعبدالإله عبدالقادر بـ «معتوق والقطط الجائعة».
في باب الترجمات، شارك شهاب غانم بـ «قصائد من شعر روبرت فروست». وفي السيرة الإبداعية، كتبت نجلاء العبدولي «الحفر في مناطق الظل والعتمة»، وفي حضور الغائب، كتب عبدالله السبب «على العندل... سقراط عجمان»، وفي باب دراسات كتب صلاح عبدالستار الشهاوي «سمات الجمال الأنثوي في الشعر العربي»، خضير اللامي «ملء الفم في فضاء السماء والأرض»، وممدوح السكَّاف «عودة إلى قصيدة النثر... إشكالية أم شكل؟».
وفي باب التشكيل، كتب إحسان الخطيب «عندما يزيِّن تراب الوطن عين الفنان عبدالرحمن زينل. وفي باب مختارات نقرأ «نص نميمة النهار» للقاص والروائي والسيناريست البحريني فريد رمضان، ولوحات عمر الراشد، وكتبتْ مدار، القاصة والروائية الإماراتية فتحية النمر، وجاء تحت عنوان «الشخوص والنص».
يُذكر، أن هيئة تحرير المجلة تتكوَّن من الشاعرة البحرينية، حمدة خميس، رئيساً للتحرير، والشاعر عبدالله السبب، نائباً لرئيس التحرير، والقاص العراقي عبدالإله عبدالقادر، مديراً للتحرير، فيما تتكون هيئة التحرير من يوسف أبولوز، وناصر جبران، ويتولى الإشراف الفني وليد الزيادي.
العدد 4683 - الجمعة 03 يوليو 2015م الموافق 16 رمضان 1436هـ