إن تفجير مسجد «الإمام الصادق» في الصوابر وسط مدينة الكويت واستهداف سياح في منتجع القنطاوي بمدينة سوسة التونسية الذي تزامن مع حادثة مصنع الغاز في «ليون» الفرنسية الجمعة الماضي، وقبلها بفترة قريبة الهجوم الانتحاري بالحزام الناسف على مسجد «الإمام علي بن أبي طالب» ببلدة القديح في القطيف والدمام بالمملكة العربية السعودية وغيرها من أماكن ودور عبادة على اختلاف الملل والديانات، إنما يعبّر في جوهره عن فعل متوحش وعدمي بامتياز، لا زمن له ولا مكان، غايته إشاعة القتل والفوضى بصدمة الرعب والتسبب في خسائر بالأرواح والممتلكات عبر استخدام أدوات التفجير والترويع والتصفية خارج الضوابط الإنسانية ومعاييرها. إنه فضيحة عصرية بكل المقاييس والقيم، بل إنه يعكس انحطاطاً حضارياً تمر به الأمة العربية والإسلامية.
بتعدد حوادث الإرهاب يمكن القول أن مجتمعاتنا المحلية الصغيرة قد دخلت على خط الاعتداءات الإجرامية الدموية التي يتبناها ويهدّد بها وينفّذها التنظيم الإرهابي «الداعشي»، وبما تخلفه من ضحايا وشهداء أبرياء وجرحى مصابين وحالة من الرعب والترويع التي تعبّر في مضامينها ودلالتها الواقعية عن تنامي ترسانة الإرهاب وتمدّد رقعته وتفريخه بفعل ممارسات الإعلام التحريضي على منصات الفضائيات وشعاراتها المزيفة ونماذج التفكير التدميري المضلّل الذي يشيطن الآخر ويكفّره ويبرّر قتله. لم لا وهو في حقيقته ضد التعايش السلمي بين الناس والقبول بالآخر المختلف، وليس أسهل على هذه التنظيمات من إعمال معّول التمزيق والتشطير والتفتيت في المجتمع بما تحمله وتستبطنه من نوازع التردي والإفلاس والسقوط في هوة العنف خصوصاً وهي التي تتبجح غطرسةً، وتعربد ليل نهار بادّعاء ملكية الحقيقة وحمل وكالتها من السماء التي تنطق باسمها، وتبيح لنفسها التبليغ والتبشير والتفنن قتلاً بالذبح وبالأحزمة الناسفة والحرق والتفخيخ وسفك الدماء.
أن تفجير مسجد الإمام الصادق بالكويت الذي راح ضحيته عشرات الشهداء الأبرياء، يشكّل جزءًا مكملاً لمكائن الإرهاب التي تسببت حتى اللحظة بكوارث إنسانية كثيرة في المجتمعات. وقد أثبت الواقع أن هذه المكائن تعيد إنتاج مآزق التنظيمات الدينية الأصولية بكل ما تحمله من آيدولوجيا متعصبة ومتطرفة ذات فكر إقصائي يفتقر للمشروعية، كونه جزءًا لا يتجزأ من مشاريع التمزيق والتفتيت والتمييز والتدمير لمجتمعاتنا المحلية. والإرهاب بهذا المعنى وذاك، آفة مزمنة من آفات الثقافة الدينية الأصولية، وهو كما التلوث وكما المرض الوبائي، بما تحمله رموزه ومرجعياته من أحقاد وكراهية وتعاليم وخطابات وفتاوى وأحكام تكفّر الآخر وتقصيه بل وتقضي عليه. وما نفّذه المجرمون وما يستنكف عن استنكاره الصامتون المتفرّجون، يمثل في حقيقته علة العلل ومكمن الداء وانتهاكاً صارخاً للحقيقة ولحرية الإنسان وللقيم والموضوعية والعقلانية.
إنه صورةٌ من صور الاستباحة والتوحش والفاشية وعبثية الغدر والبربرية، ومنه لا مفاضلة بين ما ينيره العقل وبين جنون التطهير والاستئصال والخراب الذي تمارسه التنظيمات التكفيرية، وبما يجعل من علاقتها بالآخر علاقة استعباد واضطهاد وفرض الوصاية بالهذيان وقوة العنف الأعمى، فأما أنا وما بعدي الطوفان.
إن قتل الأبرياء بدم بارد وكفعل اعتيادي بالذبح والأحزمة الناسفة والسيارات المفخخة وغيرها مما تمارسه «داعش» وأخواتها من تنظيمات الفرق الناجية، لهو «الورطة» و»الفضيحة» في الفشل بإنجاز المشروع النهضوي الحضاري، وهو الشعور بالدونية والهشاشة التي ولدتها الأصوليات الدينية بمنظومة محرماتها وثوابتها وشبكة مفاهيمها وتصوراتها وفائض جهلها الذي تمارسه عبر هوية أحادية عدائية إقصائية للمختلف. إنها بحق حالة مغلقة تدور في حلقاتها الماضوية المفرغة التي تفتقد كل إمكانات العقل والتفكير لإعادة بناء مجتمعاتنا المحلية وتطويرها بالإرتكاز على مفاهيم الديمقراطية والمواطنة والحرية والحق والعدالة والمساواة.
الإرهاب «القضية» و»الإشكالية» التي تواجه مجتمعاتنا المحلية اليوم يفضح بهذا المستوى وذاك، حجم الخلل الذي مهّد وأفسح المجال من أوسع أبوابه لتنامي الأصوليات الدينية وانتشارها كالفطر، كما يعكس خللاً في بنيوية استراتيجيتها –أي الأصوليات الدينية- وبما تتسم به من نرجسيةٍ وادعاءٍ بامتلاك مطلق الفضيلة والطهارة، وأفضلية هويتها مقارنةً بهوية الآخرين. والأهم من هذا وذاك يعكس الحالة الانهزامية المائعة التي تواجهها مجتمعاتنا إزاء مشاريع الإمبريالية الأميركية وحلفائها لتفتيت دول الشرق الأوسط وتشطيرها على أسس مذهبية وطائفية وإثنية، وصدقاً حين كتب أحدهم: «إن الوحش الإرهابي» الذي يفاجئنا ويصدمنا من حيث لا نحتسب، والذي نستنكره وندينه، من حيث لا نعقل، هو صنيعة تعليمنا وتعاليمنا بقدر ما هو ثمرة عقولنا وأفكارنا. فنحن الذين ربّيناه ورعيناه في العقول والنفوس بنماذجنا الثقافية وفتاوانا الشرعية، بمهماتنا الإلهية ودعواتنا المستحيلة ووكالتنا الحصرية على القضايا والشئون العامة أو على الهويات والعناوين الوجودية. ولذا فالمعالجة تبدأ بتغيير العدة الفكرية والمهمة الوجودية».
إقرأ أيضا لـ "منى عباس فضل"العدد 4680 - الثلثاء 30 يونيو 2015م الموافق 13 رمضان 1436هـ