إذا كنت تحمل هاتفك المحمول، فأنت بلا شك تحمل قطعة على الأقل من دماغ صناعي يحاكي العقل البشري، إذ يشكّل الهاتف الذكي دماغاً اصطناعيّاً تجمعه ميزات كثيرة مع العقل البشري، وتباعد مجموعات ضخمة من الميّزات بين الجهتين السابقتين أيضاً، وذلك وفق ما نقلت صحيفة "الحياة" أمس الأحد (28 يونيو / حزيران 2015).
ولعل أحدث ما وصلت إليه أعمال تطوير البرمجة الإلكترونية هو محاولة تصميم حواسيب يمكنها أن تصلح بنفسها الأعطال التي تتعرض لها، ما يشبه وظائف المناعة الذاتيّة التي تحمي الجسم البشري، بما فيه الدماغ.
ومنذ سنوات طويلة، يحاول مصمّمو الكومبيوتر محاكاة أدمغة البشر، خصوصاً في سياق تصميم أجهزة «الحاسوب الخارق» Supercomputer.
وتذكيراً، جرى استخدام مصطلح «الحوسبة الخارقة «Super Computing» للمرّة الأولى في العام 1929 للإشارة إلى أجهزة عملاقة تعمل على تنظيم الجداول الضخمة، وكانت من إنجاز شركة «آي بي أم» IBM العملاقة التي صنعتها لمصلحة «جامعة كولومبيا».
في ستينات القرن الماضي، ظهرت أولى أجهزة الحاسوب العملاقة مع تصاميم من قِبَل سايمور كراي في مؤسسة «كونترول داتا كوربوريشين»Control Data Corporation. وبعدها، أسّس كراي معهد بحوث خاصاً به يتخصّص في تلك الأجهزة. ومع حلول التسعينات من القرن نفسه، بدأت الآلات التي تحتوي آلافاً من المُعالِجات الدقيقة المعلومات «مايكروبروسيسرز» Micro Processers، في الظهور. وعند حلول نهاية القرن العشرين، باتت أجهزة الحاسوب العملاقة التي تمتلك عشرات الآلاف من المعالجات هي المعيار الأساسي لتلك الأجهزة. وفي العام 2012، كُرّس الكومبيوتر الخارق «تايتان» Titan، وكان من صنع «معهد كراي» بوصفه الأسرع عالميّاً. وبين صيف 2013 وخريف 2014، كان الكومبيوتر الخارق الأسرع عالميّاً هو الكومبيوتر الصيني «تيانهي- 2» Tianhe-2، المسمّى أيضاً «درب التبّانة 2».
دماغ طبيعي وآخر اصطناعي
استمراراً في المقارنة بين الطبيعي والاصطناعي، يجدر تذكّر أن الدماغ يتكوّن من 100 بليون خلية عصبية («نيورون» Neuron) ترتبط ببعضها بعضاً عبر تريليونات من الشبكات العصبية مكونة مئات التريليونات من المسارات تسير فيها إشارات تتدفق من أعصاب المخ.
وربما كان ممكناً فهم العمل الضخم الذي يبذل في محاكاة العقل البشري، عبر فهم الفارق الهائل بين ما ينتجه الذكاء الاصطناعي في ثانية من جهة، وما يقابل ذلك في دماغ البشر. ففي نهاية العام الماضي نجح فريق ياباني - ألماني مشترك تألّف من اختصاصيّين في بحوث الكومبيوتر، في محاكاة قرابة واحد في المئة من نشاطات ينجزها الدماغ البشري في ثانية واحدة. واستخدم الفريق 82 ألف مُعالج متطوّر صُمّمت خصيصاً لتلك الغاية. ووفق تقرير نشرته مجلة عالميّة متخصّصة بصناعة الكومبيوتر، هي «مازر بورد» Motherboard، شملت تلك العملية إعادة تكوين 1.73 بليون خليّة عصبية افتراضيّة، تتقاطع في 10.4 تريليون نقطة، مع وجود ذاكرة واسعة في كل خليّة.
وعلى رغم الجهد الهائل الذي بُذِل في إنتاج تلك النسبة الضئيلة ما يعادل قوة عمل المخ البشري، فإن الخطوة اعتبِرَت عملاقة في مسار المشروع الطموح لابتكار حواسيب تمتلك قدرات المخ البشري في شكل كامل، وهو ما يأمل علماء الكومبيوتر بتحقيقه في العقد المقبل. ووفق اختصاصي الذكاء الاصطناعي هنري ماركارم، يلزم التوصّل الى تحقيق ذلك الأمل تطوير سرعات الحواسيب الموجودة حاضراً بمقدار مئة ألف مرة! وتجدر الإشارة إلى أن ماركارم يقف خلف «مشروع المخ البشري» Human Brain Project الذي خصّص الاتحاد الأوروبي 1.19 بليون يورو لتمويله.
بحثاً عما يشبه الاضطراب
لا يبدو أن زيادة سرعة الحواسيب هي العائق الوحيد لمحاكاة دماغ البشر. إذ يحتاج العلماء أيضاً إلى خريطة لمئة تريليون ارتباط عصبي بين خلايا المخ، وهو أمر غير متاح حتى الآن، على رغم جهود علمية مستمرّة.
ويضاف إلى ذلك، الغموض الهائل والدقة المذهلة والتعقيد الفائق، في تركيب الدماغ البشري، وهي أمور ما زالت غامضة في تفاصيلها لحد الآن.
وفي شباط (فبراير) 2013، نشرت مجلة «نيوساينتست» العلميّة تقريراً عن كومبيوتر من نوع جديد، يحمل اسم «سيستمك كومبيوتر» Systemic computer (ترجمتها حرفيّاً: «كومبيوتر شامل») جرى تصميمه في «كلية لندن الجامعية»، قادر على تشغيل ما يسمّى بـ «نُظُم المهمّات الحرجة»، كتلك التي تتحكّم طائرات الـ «درون» Drone التي تحلّق من دون طيار. ويتيح ذلك الكومبيوتر للـ «درون» بإعادة برمجة نفسها بنفسها، في حال تعرّضها لأعطال. ويراهن كثيرون على أن يساهم ذلك الكومبيوتر في ابتكار نماذج أكثر قدرة على محاكاة الدماغ البشري.
وحينها، علّق بيتر باينتلي، وهو اختصاصي في الكومبيوتر في «كلية لندن الجامعيّة»، على «الكومبيوتر الشامل» بالإشارة إلى أن الحواسيب تبذل يومياً أقصى طاقاتها كي تتمكن من محاكاة عمل الخلايا العصبية في المخ، أو محاكاة احتشاد أسراب النحل. وفي المقابل، تنجز الحواسيب عمليات المحاكاة بطريقة تسلسليّة، ما لا يتّفق مع العمليّات الطبيعيّة فعليّاً، خصوصاً لجهة قدرة الأخيرة على علاج نفسها بنفسها.
وفي تبسيط للأمور، يعمل علماء الكومبيوتر على تنفيذ عطل ما، ثم يعالجونه، وبعدها يضعون وصفاً لأعطال وعلاجاتها في ذاكرة الكومبيوتر كي يستدعيها عندما يطرأ عطل ما عليه.
ومثلاً، يجري تنفيذ سلسلة كبيرة من الأعطال متّصلة بارتفاع درجة الحرارة في الكومبيوتر عن معدّلاتها المناسبة، ويفترض أنها تشمل الحالات كافة. ثم تعالج تلك الأعطال. وتخزّن العمليّات كلها في ذاكرة الكومبيوتر، بطريقة تتيح استدعاء العلاج المناسب عند حدوث عطل معيّن فعليّاً.
أثارت تلك الطريقة إعجاب عدد كبير من علماء الكومبيوتر، كستيف فيربر، الأستاذ في «جامعة مانشستر» البريطانية الذي يعمل على تطوير الكومبيوتر «سبينكر» Spinnaker. ويفترض أن «سبينكر» يحاكي عمل مليون خلية عصبيّة في دماغ الإنسان.
ويفترض أن يوفّر «سبينكر» فهماً أفضل لبعض الاختلالات في وظائف الدماغ البشري، كتلك المتّصلة مع اضطرابات كالكآبة المرضيّة والـ «شيزوفرينيا».