في اللعب على حقب زمنية ثلاث مُتغيِّرة باستحقاقاتها وتحوَّلاتها؛ تأتي رواية الإنجليزي من أصل هندي، سلمان رشدي «أطفال منتصف الليل»؛ حاملة ذلك المزيجَ المُذهل من أحداث التاريخ الحقيقي، وأدب الخيال التاريخي؛ لتلعب على شخصية/ شخصيات (أطفال) فترة الاستعمار، وأخرى فترة الاستقلال، والثالثة التي تزامنت مع فترة التقسيم في العام 1947؛ حيث تم إقرار قانون استقلال الهند في 15 أغسطس/ آب 1947، وهو عام التقسيم نفسه بظهور باكستان قبل يوم من ذلك التاريخ، وهو 14 أغسطس من العام نفسه.
لكل حقبة شخصيتها؛ وبالضرورة رؤيتها لمعنى الحياة التي تنتمي إليها ومعها تتعاطى. شخصية فترة الاستعمار بكل اندفاعها أو خيانتها. واقعيتها أو تورُّطها في الخرافة والشعوذة والأساطير؛ وشخصية فترة الاستقلال بجموحها وأحلامها العريضة واللامتناهية؛ وشخصية فترة التقسيم، بكل الخيبة التي تعتريها على المستوى النفسي والروحي. بكل اللامبالاة الطبيعية التي تحدث في اضطراب وهشاشة تلك النفس والروح.
الشخصية الرئيسة في الرواية (سليم سينائي)، هو نفسه «طفل منتصف الليل»، شخصية الارتباط القسْري بتاريخ بلده الذي وُلد يوم ولد هو... يوم أن كانت تحت هيْمنة الاستعمار البريطاني... في انتقالات القصة وقفزاتها إلى أطفال تنتخبهم، وأيضاً في منتصف ليل، ولكن هذه المرة «منتصف ليل الاستقلال»، بكل ذلك النسيج العجيب والمليء بالغرابة والمشحون بالاختلاف، في اختلاط الخرافة بالمعجزة... بالسحر... وبالتفاهة أيضاً، على تلك الأرض أن تحملهم جميعاً استعداداً لخيارها الوطني في ظل الاستعمار، وما بعد الاستقلال «أطفال منتصف الاستقلال» ليطلَّ علينا ضمن نسيج السرْد ومتواليته «أطفال منتصف التقسيم» الذي طال البلد قبل يوم من إعلان استقلالها. الأطفال الذين حمَّلتهم الهند كلَّ تلك التناقضات التي حملتها؛ انتظاراً لميلادها الجديد.
ألْفُ منتصف ليل
الأمَّة التي لا تتذكَّر أيضاً، بتوظيف رمزية أبناء لا آباء لهم؛ حيث يأخذنا سلمان رشدي في نهاية الرواية بذلك الصوت الداخلي الذي يبدو هادئاً ولكنه مُزلزل بمعنى من المعاني: «ابني الذي ليس ابني، وابنه الذي لن يكون ابنه، وابن ابنه الذي لن يكون ابن ابنه، حتى الجيل الواحد بعد الألْف، وإلى أن يكون ألف منتصف ليل ومنتصف ليل».
روبرت مِكْرُم من صحيفة «الغارديان» البريطانية، كتب تقريراً يوم الاثنين (15 يونيو/ حزيران 2015)، تناول فيه قائمة أفضل 100 رواية بريطانية؛ مُركِّزاً على «أطفال منتصف الليل»، مضيئاً جوانب من عوالمها؛ فيما تضيء مقدِّمة محرر «فضاءات»، جوانب فنية لم يتناولها التقرير، مع إضاءة مختصرة على السيرة والإصدارات.
يشير مِكْرُم في مطلع تقريره إلى أن ظهور «أطفال منتصف الليل» في العام 1981؛ جعلها تقف الآن باعتبارها مَعْلماً مُهماً من معالم الرواية الإنجليزية بشكل خاص، مُشيراً إلى أن الرواية الثانية لسلمان رشدي أخذت الرواية الإنجليزية الهندية إلى ثورة بذلك التزاوج بين خيال أوستن وديكنز، مع التقليد السرْدي الشفوي للهند، كما أوجدت رواية من «الواقعية السحرية» (كانت التسمية لاتزال في مهدها) لجيل جديد. وهذا من شأنه إيجاد قارئٍ عالميٍّ، بتلك التوليفة التي تحتويها القصة التي تدور أحداثها في بومباي، عبْر عمل من وحْي الخيال المُعاصر الذي يمزج حكاياتٍ من الشرق والغرب في حال من الاعتراف الذاتي الرمزي المرويِّ من سليم سينائي، صبي هندي وُلد في منتصف الليل، 15 أغسطس/ آب 1947 (هو تاريخ إعلان استقلال الهند). صبي ذو أنف مُميَّز يبدو وكأنه تجسيد مصغَّر لشبه القارة الهندية، والذي سيأخذه تاريخه ليكون مجرد سجين لدى ذلك التاريخ.
ضبْط مناورة السرْد
في جانب آخر من الرواية، يتطرَّق مِكْرُم إلى شخصية سليم؛ حيث يعمد إلى ضبط مناورته في مساحات منها؛ باعتباره الراوي في الفقرة الثالثة: «لقد كنتُ ملتهمَ الأرواح؛ ولكي تعرفني، أنا فحسب، سيكون عليك التهام الكثير أيضاً. الجموع المستهلكة تتسابق وتتدافع بداخلي (...) وهكذا، علينا العودة».
سليم، الذي يسكن رشدي لأغراض وتوظيفات خاصة به، شخصية تتمتع بالعديد من القوى غير العادية، وخصوصاً القدرة على الاتصال النفسي مع الأطفال الآخرين الذين وُلدوا مثله، في هذه اللحظة بالذات من ميلاد الهند الحديثة. مساواة... توازن مهم، يتم إهماله أحياناً، عنصر من عناصر الرواية هو رد رشدي الغاضب على شدَّة القمع الذي نتج عن قانون الأحكام العرفية و «قانون الطوارئ» في سبعينات القرن الماضي. ومع سليم، يُصبح الشخصي والتاريخي مُمكنيْن في تميُّزهما، كما يُدخلنا رشدي بإيجاده ثنائية أخرى تتحدَّد في عملية استبدال الراوي بطفل ثانٍ، وهو «الأنا» التي تعبِّر عن الجانب المظلم لسليم. كل هذا يتم وصفه بالنثر الإنجليزي - الهندي الذي ينبض بالصخب والروعة.
صفحات رشدي تظل ثريَّة، مُرصَّعة بالجوهر النفيس، بنسيج من التلميحات. هنالك التورية. ستجد ذلك في النكات، والتعليقات الجانبية، والتفاهات أيضاً غير المُعتدِّ بها في الثقافة الشعبية.
كنْتُ مُفْلِساً
بدأت كتابة «أطفال منتصف الليل»، بحسب ما بيَّنه رشدي نفسه، عندما سافر إلى الهند في العام 1975، وعودته إلى الوطن بفضل 700 جنيه إسترليني تلقَّاها كدفعةٍ مُقدَّمة عن روايته الأولى «غريموس»، وهي تجربة تدخل ضمن الخيال شبه العلمي، ولم تحظَ بأي اهتمام أو شهرة؛ بل وصفها بعض النقاد بأنها أكثر من سيئة. ولكن روايته الثانية (أطفال منتصف الليل) ستكون مختلفة.
وفي لقاء أجري معه في العام 2005، قال رشدي: «طالما أردت في أوقات كتابة رواية عن الطفولة». ولكن لم يتحقَّق ذلك العمل حتى تمَّتْ رحلته تلك؛ حيث بدأ تصوُّر «خطة أكثر طموحاً». كان سيأخذ سليم سينائي، الشخصية الثانوية في رواية مُهمَلة حملت عنوان «الخصم»، ليربطه كُليَّة بالاستقلال الهندي على نحو يجعل تاريخ الهند الحديث «هو من يقف وراء أخطائه».
كانت الفكرة شيئاً واحداً؛ أن الكتابة ستكون مُغايرَة. وقال: «كنت مُفْلساً»، كما يتذكَّر رشدي. «كانت فكرة الرواية في مُخيَّلتي تسير بشكل واضح. ستكون طويلة وغريبة وسيستغرق الأمر بعض الوقت لكتابتها، وفي الوقت نفسه لم يكن لديَّ مال». وبعد أن عمل بدوام كامل لفترة وجيزة لدى وكالة أوغلفي آند ماذر، في تحرير الإصدارات؛ عاد إلى العمل بدوام جزئي في الوكالة نفسها، واستقرَّ لوضع روايته التي بدأها ليطلق عليها اسم «أطفال منتصف الليل»، لتُرفَض من قبل الناشرين باعتبارها «مبتذلة».
بحلول منتصف العام 1979، تم إنجاز الرواية، وأُرسلت نسخة مطبوعة على الآلة الكاتبة إلى صديقته المحررة ليز كالدر في دار «جوناثان كيب»؛ حيث المكان الأفضل في تقاليد النشر، وكان التقرير المُوجز والأول للرواية عدائياً ورافضاً لها، وجاء في جانب من نصّ التقرير: «إن المؤلف ينبغي أن يركِّز على القصص القصيرة حتى يتمكَّن من إتقان شكل الرواية».
العُقدة في الخط الزمني
بعد ذلك، سادت قراءاتٌ أكثر حكْمة للرواية؛ ليتم شراؤها من قبل كل من دار نشر «كَيْب» في المملكة المتحدة و «ألفريد نَوف» في الولايات المتحدة الأميركية. وقال كالدر، إن رشدي، أنقذه من «خطأين طائشين». هنالك في الكواليس شخصية تم إقحامها؛ علاوة على العقدة في خط زمن الرواية. كان رشدي مُقتنعاً باستبعاد الشخصية، وإعادة هيْكلة القصة زمنياً.
بنشرها في ربيع العام 1981، كانت المُراجعات والاستعراضات لها جيدة، كما كان استقبال الرواية مُحمِّساً عموماً. ولكن بعد ذلك، حين ظهرت الرواية في الهند، برز أول الخلافات السياسية التي عذَّبت رشدي طوال مسيرته الأدبية؛ حيث رفعت السيدة أنديرا غاندي دعوى عليه بتهمة التشهير، تتصل بعلاقتها مع ابنها الأصغر سانجاي. لكن القضية لم تأخذ طريقها إلى المحكمة؛ وفي النهاية تم إسقاط التهمة المُوجَّهة إليه. أصبحت السيدة غاندي وقانون الأحكام العرفية في ذمة التاريخ، وأصبح النص أقل محليَّة؛ لكنه من حيث ارتباطه بأحداث تاريخية؛ صار أكثر خلوداً وامتداداً.
يقول رشدي إن «(أطفال منتصف الليل) نتاج لحظتها في التاريخ، تأثرت في تشكُّلها بزمنها الخاص، وبطرق لا يُمكن لمؤلفها أن يعرف تفاصيل كل ذلك تماماً».
ضوء على رشدي
يُذكر، أن سلمان رشدي روائي وكاتب بريطاني من أصل هندي، من مواليد مدينة بومباي في 19 يونيو/ حزيران 1947. تلقَّى تعليمه في جامعة كامبريدج البريطانية. حصلت الرواية الحائزة على المركز الحادي والتسعين على قائمة أفضل رواية بريطانية «أطفال منتصف الليل» على جائزة بوكر الأدبية، وجائزة ذكرى جيمس تيت بلاك في العام 1981، كما حصلت على جائزة بوكر البوكر في العام 1993 بمناسبة الذكرى الخامسة والعشرين لجائزة بوكر، وجائزة أفضل فائز بجائزة بوكر في العام 2008 بمناسبة الذكرى الأربعين للجائزة.
من أعماله: «غريموس» (1975)، «أطفال منتصف الليل» (1981)، «العار» (1983)، «ابتسامة الجكوار» (1987)، «آيات شيطانية» (1988)، والتي أثارت جدلاً كبيراً في العالم الإسلامي؛ بعد صدور فتوى من المرشد الروحي الإيراني آية الله الخميني أهدر فيها دمه بسبب ما تضمنته الرواية من إساءة إلى الرسول محمد (ص)، ورموز كبرى في الإسلام، إضافة إلى «هارون وقصص البحر»، (1990)، «أوطان تخيُّلية: مقالات ونقد» (1992)، «مشرَّد باختيار» (1992)، «شرق، غرب» (1994)، «زفرة العربي الأخيرة» (1995)، «الأرض تحت قدميها»، (1999)، «الجُنون» (2001)، «خُطوات تقطع الخط» (2002)، «شاليمار المهرِّج» (2005)، «عرَّافة فلورنسا» (2008)، و «جوزيف أنطون: مذكرات» (2012).
العدد 4676 - الجمعة 26 يونيو 2015م الموافق 09 رمضان 1436هـ