احذروا الذين يتظاهرون بالنسيان. تكمن وراء ذلك التظاهر قدرة عجيبة على تذكُّر تفاصيل التفاصيل. فقط، الذين اطمأنوا أن حقهم وصل إليهم يحاولون إقناع أنفسهم بالنسيان؛ وكثيراً ما لا ينسوْن أيضاً! لا نتحدث هنا عن مصَّاصي الدماء!
***
النسيان فضاء أيضاً؛ لكنه خارج التغطية من قبل ذاكرة أي منا. التذكُّر فضاء صريح لا يمكن التلاعب بتفاصيله. فقط صاحبه الذي يقدِّم أو يؤخِّر في تلك التفاصيل، ولا تلاعب في ذلك! نسيتُ: ثمة من يحاول التلاعب بذلك أيضاً، وفي استماتة تبعث على الشفقة!
***
في الاحتلال لا فضاء يُرى. في الحرية كل مليمتر في الحياة فضاء. لهذا وحده أفهم وأتفهَّم أن تختار شعوب الموت؛ لأنها ترى فيه فضاءها الحقيقي؛ ولأنه لا موت في سبيل قضية نبيلة كالعمل على التحرُّر والتحرير. إنه سبيل الحياة الحقَّة!
***
الأقنعة التي يتخذها بعض البشر في تعاملهم مع من حولهم، هي سجون متحركة. قيود تأخذ مكانها في الوجوه بدل الأيدي والأقدام، وتلك أصعب القيود، وإن وجد أصحابها متعة في ممارستها والانسجام معها! ثم أي متعة تتأتَّى من التواري خلف ما لا يشبهك، وما لا يدل عليك؟
***
كثيرون يُحقِّقون حريتهم في لحظة/ لحظات. كثيرون أيضاً يمتد بهم العمر ويزدادون عبوديةً. بين اللحظة وامتداد العمر، يكمن الفارق الحادُّ والحرج بين أن تنحاز لحريتك، وبين أن تنحاز لقيدك/ عبوديتك! وبين هذا وذاك فارق الحياة والموت!
***
بيننا... بين البشر في أرض الله من لا يخجل من المطالبة - في مزايدة رخيصة - بإعدام الديمقراطية. ولأنه يمقت كلمة «حرية» يتجنَّبها؛ لأنها تذكِّره بالعبودية التي ارتضاها. اخترْ قبراً سيلفظك بالضرورة!
بيننا... بين البشر في أرض الله من يرى في فضاء سواه سجنه. ويرى في سجن سواه فضاءه! بأي معيار يمكن التعامل مع تلك النماذج؟ على المشغولين والقلقين من ارتفاع معدَّل الإصابة بالأورام الخبيثة أن ينشغلوا ويخشون من أورام كهذه! ذلك هو التهديد الحقيقي للحياة!
***
في كثير من الصمت تآمر وأدوات قتل وتنكيل. في كثير من الصمت دعوة مفتوحة لاستباحة الحياة بما فيها من بشر وكائنات. في كثير من الصمت دعوة أيضاً لوضع حد لتلك «البدْعة» اللعينة: الحرية! وفي كثير من الكلام/ الثرثرة ما هو أشدُّ وأمضى!
***
لا ينتصر الحديد في كل مواجهات البشر إذا حدَّدوا خياراتهم والمصائر. صحيح أن انتصارات الحديد كثيرة ولكنها تظل مؤقتة. الانتصار الذي يحقّقه الحديد دون أن ينتصر على القلوب والقناعات، يخط مسارات تهديد بقائه، ويحدِّد نهاياته أيضاً؛ وخصوصاً إذا أمعن في خنق فضاء الناس، وحقهم في هواء نقي، وحركة حرة، ونظر في القيمة المتوخاة من وراء وجودهم أساساً في هذا العالم: أن يكونوا أحراراً يدفعون هذا العالم إلى مزيد من الانتصار على الخيبات واليأس!
***
وفي فرح أي منا حريته. في إحباطه... ضِيقه... فرط حزنه، قيد بحجم الفضاء الذي من المفترض أنه شاهد عليه/ علينا. وفي اليأس قبر بامتداد الفضاء!
***
وماذا سيكون تعريفنا للفضاء. فضاء أي منا في حركته ووجوده ونظره وتأمله وتفكيره وخياراته؟ ببداهة: أن يكون حراً بمسئولية تَبْني ولا تُخرِّب، وترفع ولا تحطُّ، وتُضيف ولا تُصادر، وتنظِّم ولا تكون راعيةً للفوضى. ليست الفوضى التي يتم تعريفها اليوم بحسب المآزق والتجاوزات التي يتم تعهُّدها بشهوةٍ بالغة!
***
من الطبيعي أن تكون حريتك وطنك؛ ولكن ليس بالضرورة أن يكون وطنك حريتك!
***
وهنالك من يجد فضاءه في التاريخ المدمِّر؛ لذا يجد في تدمير الحاضر جزءاً من الوفاء لذلك التاريخ!
***
كم من حُرٍّ وضعتْه خياراته الطبيعية في سجن؟ وكم من طليق غضَّ الطرْف عن خياراته وخيارات سواه، هو واقعاً في سجن لا حدود ولا انتهاء له؟
***
ثم ما الحرية؟ ذلك فضاء السؤال. معنى الفضاء وقيمته؛ تجاوزاً للسؤال: أن تكون أنتَ لا سواك!
***
ثم إن حريتك في الإصغاء الذي يرفعك؛ لا الإصغاء الذي يقزِّمك. وفي الثرثرة ومصادرة حق سواك في الكلام ما يأخذ بك إلى ما بعد التقزُّم والعدَم!
***
لا حرية في الضوضاء. الضوضاء قيود أخرى. فضاء مُصادَر!
***
أيتها الحرية: كأنك الزوجة الأولى وسط ثلاث زوجات في بيت يسمّى الوطن!
***
وللذين يصرخون ويتآمرون على الحرية: ذلك أول الدليل على أنكم من الأموات، ولا على الأموات حرج!
إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"العدد 4674 - الأربعاء 24 يونيو 2015م الموافق 07 رمضان 1436هـ