باسمه التراثي وتوجهه الحداثي انطلق في أوائل التسعينيات مسلسل "طاش ما طاش". ولعل المفارقة الجديرة بالذكر أن في اسمه المأخوذ من لعبة شعبية قديمة تعتمد المراهنة بين طرفين على فوران المشروب الغازي (يطيش)، أو عدم فورانه (ما طاش)، علاقة بواقع الحال. إذ أنه وبعد كل حلقة من حلقات طاش الرمضانية، كان هناك ترقب لما يمكن أن يكون عليه حال الشارع السعودي، فوران أم هدوء. فهل طاشَ سيلفي ناصر هذا المرة أو "ما طاش"؟
حراك سعودي
حراك مشهود وغير مسبوق على مستوى الإعلام والمجالس الخاصة أثاره هذا المسلسل بتعرضه لقضايا من صميم البيت السعودي لينقسم المتابعون والمراقبون ما بين مؤيد لما يعتبرونه "وضع اليد على الجرح" وما بين معارض لما يصفونه بـ "تشويه الواقع المجتمعي" والمبالغة في السخرية، ولكن في المحصلة هناك حراك وحوار، مقابل الركود الذي قد تأتي به برامج ومسلسلات أخرى، وهذا أمر إيجابي، يُحسب لهذا المسلسل، وفقا لكثير من النقاد والمختصين.
واليوم بعد عرض عدد من حلقات المسلسل الجديد "سيلفي" بطولة الممثل ناصر القصبي، وباستقطاب كثير من نجوم الفن السعودي الذين سبق لهم أن عملوا في مسلسل طاش. وبعد متابعة لردود الأفعال التي أثارها ولا يزال يثيرها المسلسل من خلال حلقاته الأولى. تعود الذاكرة بنا للأجزاء المتتابعة من طاش. وما تركه كثير من حلقاته في نفوس كثيرين، مشاهد ومواقف ومفارقات لا يمكن نسيانها. فحلقات مثل "إرهابي أكاديمي"، أو "بدون محرم"، أو "وشو من لحية". لاقت رواجا كبيرا إذ ناقشت كثيرا من سلبيات التشدد والعنصرية حينها. وهذا مافعله "سيلفي" قبل أيام معدودة عبر حلقتين مؤثرتين، للكاتب خلف الحربي انتقد فيهما "الدواعش"، وحياتهم القائمة على القتل والسبي، فضلا عن تفكيك الأُسر والأوطان. وكل ذلك من خلال كوميديا سوداء، قصيرة في زمنها، طويلة في فعلها وأثرها.
"ثبات" القصبي
البحث عن مسيرة شخص بعينه هو الفنان ناصر القصبي يعود لسببين؛ الأول عام وهو أن العمل المؤسسي المترابط الذي حاول طاش في بداياته أن يوجده على مستوى الفريق بدءا بالكوادر الإنتاجية من خلال مؤسسة هدف أو من خلال الكوادر الفنية والإخراجية، كانت غالبا ما تؤول للفشل، حتى جاءت القاصمة بحلّ الثنائية الأساسية في العمل التي تجمع بين ناصر القصبي والفنان عبدالله السدحان. لتخرج كثير من التصريحات والتأويلات حينها، منها ما يتعلق بخلافات مالية أو موضوعية ومنها ما يشير إلى حالة من التشبع والحاجة للتغيير كما جاء على لسان القصبي نفسه. أما السبب الثاني والخاص بحضور الفنان ناصر القصبي تحديدا فلأنه هو من اختار الثبات والمواصلة على النمط ذاته من القضايا والطرح الجريء. ليختار الخروج بمسلسل "أبو الملايين" الذي لم يجد كثيرا من القبول. وبرغم اختياره لفنان مخضرم وقدير كحسين عبدالرضا إلا أن القصبي لم يستطع أن يوجد ثنائية جديدة وفاعلة تعوض فنيا أو سعوديا، على الأقل، عن الثنائية التي فقدها بعد افتراقه عن السدحان. فضلا عن أن فكرة العمل وسياقه الخليجي العام أبعده عن هموم البيت السعودي التي لطالما أجاد القصبي والسدحان ملامستها والعمل عليها. كما أن محاولة تقديم "اسكتشات" مختصرة وقصيرة على غرار دقائق الـ "يوتيوب" الخمسة كانت غير كافية أو ناجحة. فالدراما التفزيونية تبقى فعلا مؤسسيا وجماعيا له تقديره وقدرته التي لم تستطع كثير من برامج الـ "يوتيوب" أو "الون مان شو" والـ "ستاند أب كوميدي" تقديم البديل عنها أو حتى مجاراتها على أقل تقدير.
رؤية السدحان
وفي المقابل يأتي "سيلفي" اليوم بهذا الزخم من القبول والرفض في الوقت ذاته، وبهذا التماثل في الطرح مع طاش، ليؤكد أولا على رؤية الفنان عبدالله السدحان أن "طاش" كان بإمكانه الاستمرار فنيا وأن تكرار الأفكار لا يعني نفاذها أو عدم إمكانية تناولها طالما كانت هناك سياقات وتفاصيل مختلفة يمكن توظيفها في قالب فني جميل. كما يؤكد "سيلفي" من جهة أخرى ثبات مبدأ القصبي وجرأته في تناول قضايا اجتماعية تمس الشأن العام السعودي في قوالب فنية ساخرة لطالما أثبتت جدواها وتأثيرها حتى مع أشد القضايا تعقيدا كقضية الإرهاب والتطرف. فهل يمهد "سيلفي" لعودة الثنائي القصبي والسدحان؟
أمنية وإن كانت بعيدة المنال اليوم، بحسب المقربين من الفنانين، إلا أنها تمثل رغبة لدى كثيرين ممن كانوا شهودا على هذا النجاح المتراكم في تحريك الشارع السعودي تجاه قضايا طال السكوت حولها. فلعل عودة هذا الثنائي يمثل عودة أيضا لعمل مؤسسي اجتماعي، طموح وتفاعلي. تماما كما حاول "طاش ما طاش" في فترة من فتراته أن يفعل حيث شاركت شرائح وطنية مختلفة في كثير من مواسمه بتقديم نصوص وقصص تُعالَج دراميا من قبل أسرة المسلسل. وخصصت لذلك الجوائز حينها. فكان أن قدم المسلسل كثيرا من المواهب الشبابية والوطنية كتابة وتمثيلا.
أهمية النقد
قيل كثير سابقا عن "طاش ما طاش" وأنه أداة "تنفيس" لا أكثر، رغم أنه يكاد يكون العمل السعودي الوحيد الذي مُنعت منه حلقات بعد تصويرها وقبل عرضها، بأمر الرقابة. كما أنه الوحيد الذي أحدث ردودا للفعل وصلت حد أن طلب أحد أعضاء مجلس الشورى من رئيس المجلس 2007 الرد ببيان على حلقة من حلقاته التي صورت المجلس، بحسب العضو، وكأنه لايهتم بحاجات المواطنين. إلا أن رئيس مجلس الشورى السعودي الدكتور صالح بن حميد أبدى، بحسب تصريحات صحافية، تفهم المجلس لـ "أهمية النقد"، رافضاً طلب عضو المجلس، الردّ على ما رود في حلقة "طاش ما طاش" التي بثّها تلفزيون MBC تحت عنوان "ليبراليون ولكن". إذ رأى في ذلك مصادرة لما يُطرح في وسائل الإعلام، معتبراً أن ما يُطرح من انتقادات لا تقتصر على المجلس فقط، بل تطول جميع الجهات، "ومن ثم لا داعي للردّ".
يبقى أن ما قيل عن طاش قد يقال عن "سيلفي" طالما أنهُ طاشَ هذه المرة محركا المياه الراكدة. وقد يكون هناك كثير من الملاحظات والنقد الذي يمكن التطرق له فنيا على مستوى الأداء والنص. لغرض التطوير والتحسين. ولكن أيضا هناك في المقابل رسائل فنية ثقافية ووطنية تظهر في اجتماع كوكبة من الفنانين والكتاب السعوديين لتقديم عمل وطني يعنى بهذا المجتمع تحديدا ومشكلاته وهمومه التي لا يجب أن تتوقف عن الطرح طالما بقيت هذه القضايا عالقة وواقعية. فالتكرار غير المقبول فنيا قد يكون مقبولا بل ومطلوبا إذا ما استمرت الوقائع الاجتماعية تشير إلى تفاقم بعض المشكلات. وحينها يصبح تكاتف جميع الجهات، فنيا وإعلاميا وأكاديميا ودعويا، مطلبا وطنيا لا غنى عنه.