استناداً إلى مفاهيم القوة والنفوذ في العلاقات الدولية والأمن القومي والسيادة التي ينظمها ميثاق الأمم المتحدة، تمارس أطراف التفاوض في الملف النووي الإيراني علاقات صراع تعتمد الوسائل السلمية وبما لا يعرض السلم والأمن الدوليين للخطر، كما تجسد في تفاوضها مبدأ المساواة بين الشعوب واحترام حقوقها الإنسانية دون تمييز في حقها بالاستفادة من العلوم والحصول على الطاقة النووية للأغراض السلمية، ولتحقيق النمو الاقتصادي والاجتماعي لمجتمعاتها المحلية.
في هذا الإطار جرت الجولات السابقة والجولة الحالية من المفاوضات بين إيران ومجموعة (5+1) في فيينا، والتي اتسمت حسب المراقبين بالغموض والتكتّم وتبادل الضغوط بين طرفي العملية التفاوضية. ترى ما مظاهر الغموض والضغوط وما انعكاساتها على واقع المفاوضات؟
بدايةً لابد من الإشارة إلى أن المفاوضات تعاني أصلاً من التعقيد ووجود عراقيل وصعوبات في تحقيق أهدافها الجوهرية حتى اللحظة، خصوصاً مع التباين والاختلافات في فهم وتفسير بعض البنود التي يرتكز عليها اتفاق جنيف المبرم قبل أشهر، وإصرار الأطراف على أن لا يتم أي اتفاق نهائي على حساب مصالحها القومية.
في هذا السياق يرى المحللون أن ما ينشر إعلامياً بشأن المفاوضات لا يتعدى عناوين متكرّرة لا تتطرق إلى التفاصيل الدقيقة، ودلالتهم على ذلك في الجانب الإيراني تبرير وزير الخارجية إزاء مطالبته من بعض البرلمانيين بمعرفة تفاصيل أدق، بقوله: «أن التكتم على تلك التفاصيل نابع من طبيعتها السيادية والحرص على نجاحها». ردّه بالطبع دبلوماسي وفيه ما فيه من تعبير عن خشية وحذر فيما لو تعثرت المفاوضات وحدثت ارتدادات، ناهيك عن أن اتباع نهج عدم الوضوح وتقليل التصريحات وطرح العموميات التي تساهم في خلق حالة ضبابية وتأويلية في المشهد السياسي الإيراني التي عبّر عن جانب منها عضو برلماني قائلاً: «إن المرشد علي خامنئي قرأ متن اتفاقية جنيف ثلاث مرات ولم يظفر منها ما يفيد بحق إيران في تخصيب اليورانيوم»، باعتبار أن رفع العقوبات الاقتصادية والاحتفاظ بحق تخصيب اليورانيوم، وعدم إيقاف مفاعل آراك... تمثل حقوقاً أصيلة لإيران في المفاوضات لا يمكن التنازل عنها.
أما ظاهرة التكتّم وعدم الوضوح عند الطرف المقابل، الأوروبي والأميركي، فإن أحد أهم أسبابها يكمن في الحملات والضغوط التي تمارسها «إسرائيل»، خصوصاً وهي التي هدّدت بأن «أي اتفاق سيء سيدفعها للتصرف بشكل منفرد». كما نشرت «وول ستريت جورنال» عن محاولاتها التجسّسية على جلسات التفاوض، وما أعلنت عنه سويسرا والنمسا بشأن فتح تحقيقات حول شبهات بالتجسس المعلوماتي في الفنادق التي استضافت محادثات التفاوض، كما ضبطت معدات معلوماتية في إطار عملية التفتيش. كما يكمن أيضاً في مواقف دول الخليج وتكرارها بأن الاتفاق النهائي للملف النووي سيكون على حساب مصالحها الاستراتيجية، حيث طالبت بإشراكها في المفاوضات.
ولاشك أن التقليل من التصريحات في مسارات اللعبة التفاوضية وعدم إفشاء تفاصيلها، فضلاً عن ممارسة الضغوط والتطورات السياسية الإقليمية، قد ساهمت بهذا الشكل أو ذاك في تحسين شروط التفاوض واستفادة طرفيه في التأثير إلى ما توصلوا إليه من نتائج، إضافةً إلى حماية مصالحهم، الأمر الذي يقود مجدداً للسؤال عن ماهية تلك الضغوطات ومتغيراتها وتأثيرها؟
من جهة إيران، تبيّن التقارير بأن ضغوطها تمارس بصورة دفاعية استباقية، يتمثل أبرزها في محادثاتها الأخيرة مع موسكو بشأن عقد اتفاقية تجارية بقيمة 20 مليار دولار، تصدّر بموجبها إيران النفط إلى روسيا، مقابل حصولها على معدات صناعية وسلع روسية. أما رد الفعل الأميركي فكان في اتهام الطرفين بخرق بنود اتفاقية جنيف، وتهديد إيران بمزيدٍ من العقوبات في حال وقّعت الاتفاقية التجارية.
من جانب متصل، شكّل تصريح خامنئي قبيل مفاوضات فيينا بعدم تقديم مزيدٍ من التنازلات، وتحذيره للمفاوضين من التصرّف خارج الخطوط الحمراء للنظام على رغم دعمه المفاوضات، شكّّل مرتكزاً للأصوليين الإيرانيين في حملتهم ضد العملية التفاوضية. ماذا يعني ذلك؟
يعني أنها رسالةٌ إيرانيةٌ ذات بعدين، الأول بأن على مجموعة (5+1) القبول بما تعرضه إيران، لاسيما مع استمرارها في التحدّي الاقتصادي على رغم ترجيح المحللين عدم قدرتها على تحمّل المزيد من العقوبات، إضافةً إلى قرار الحكومة الإيرانية رفع ميزانية الأمن والاستمرار في المناورات وتجارب الصواريخ والطائرات العسكرية. أما البعد الثاني فهو يبث رسالة للعالم مفادها أن إيران قوةٌ في المنطقة ولا يجب الاستهانة بها.
من طرفهم، الولايات المتحدة والغرب، يضغطون على طهران لتقديم تنازلات أكثر، وأبرز مظاهر ضغوطهم تمثلت في الرفض الأميركي منح تأشيرة دخول للسفير الإيراني الجديد في الأمم المتحدة كونه أحد المشاركين في اختطاف الرهائن الأميركيين العام 1979، إضافةً إلى إثارة قضايا حقوق الإنسان في إيران من قبل الاتحاد الأوروبي التي ندّد بها الرئيس حسن خاتمي، بصفتها «مساومات»، وأعلن أنه لن يسمح بتعريض أسرار الدولة للخطر من خلال المفاوضات النووية، إضافةً إلى القرار الذي اتخذته بريطانيا بتجديد الحظر على 15 شخصية إيرانية. ففي كل هذا وذاك رسائل تحذيرية لإيران تفيد بأن ما نالته حتى اللحظة من اعتراف الغرب بحقها المحدود في تخصيب اليورانيوم والإفراج عن 7 مليارات دولار من أموالها المجمّدة، وتخفيف بعض العقوبات المتعلقة بالنفط الخام وقطع غيار السيارات، كان مقابل مرونتها وتقديمها لتنازلاتٍ تتعلّق بتجميد برنامجها النووي؛ وأن كل ذلك يمكن التراجع عنه لو أخلّت ببنود الاتفاق، كما أن رغبتها في كسب مزيدٍ من الوقت والحصول على أوراق تفاوضية ودور جديد في المنطقة يعني ما يعنيه من تقديمها لمزيدٍ من التنازلات.
خلاصة الأمر، أن حالة انعدام الثقة لاتزال هي الغالبة على مشهد اللعبة التفاوضية، خصوصاً أن بعض الدول الغربية كفرنسا ومعها «إسرائيل» وبعض دول المنطقة العربية، لا تثق بأن هدف البرنامج الإيراني ينحصر فقط في الأغراض المدنية، وإنّما هو مصمّمٌ لأغراض عسكرية يحقّق لها الهيمنة الإقليمية، فيما تستمر شكوك القيادة الإيرانية وخصوصاً الأطراف المتشددة منها، بنوايا الولايات المتحدة في سعيها إلى تغيير النظام وإثارة الصراع السياسي الداخلي، ومسّ السيادة الوطنية لجهة طرح قضايا جديدة كقضايا حقوق الإنسان والشروط المتعلقة بالمسائل الفنية وعمليات التحقق والرصد والتفتيش في الملف النووي.
إقرأ أيضا لـ "منى عباس فضل"العدد 4673 - الثلثاء 23 يونيو 2015م الموافق 06 رمضان 1436هـ