يسرد وزير الدفاع السوري الأسبق العماد أول مصطفى طلاس أن الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد حاول مرةً أن يُبرهن للسوفيات بأن النظام (في سورية) أكبر من الأشخاص. فأرسل العماد حكمت الشهابي (رئيس هيئة الأركان في الجيش السوري الأسبق وتوفي قبل عامين فقط) في رحلةٍ إلى موسكو كي يعقد اتفاقات عسكرية معها ويأتي على إثرها بسلاح متطور إلى سورية.
يُضيف طلاس بأن الـ «كي جي بي» كان لديها درايةٌ بأن للشهابي علاقة مع المخابرات الأميركية. فلما طلب الأسلحة من السوفيات أعطوه قائمة سلاح لا تزيد قيمة محتوياتها عن الـ 262 مليون روبل، وأبلغوه أن هذا قرار الدولة (السوفياتية)، وأن له الحق في أن يشطب منها ما يريد ولكن لا يحق له إضافة شيء لها. نظر الشهابي إلى القائمة فدُهِش: دبابات عتيقة مُعاد تجديدها، ومدافع هاون 12 كم وغيرها من الأسلحة العادية التي لا تبني أي قوة عسكرية متميزة لسورية.
أبلغ الشهابي السوفيات أن عودتي بهذا السلاح يعني أن مهمتي في موسكو فاشلة، فقالوا له يمكنك العودة إن أحببت، وعاد الرجل خاوي الوفاض. سأل الأسد مصطفى طلاس: هل ما زالت لديك حظوة لدى موسكو؟ قال له: بطبيعة الحال. قال: لو بعثتك إلى هناك هل يمكنك أن تأتي لنا بسلاح؟ رد طلاس: بكل تأكيد. ذهب الأخير إلى موسكو وعاد بسلاح قيمته أكثر من 3 مليار روبل و26 اتفاقية مُوقّعة ومختومة من الكرملين. وعندما سأله الصحافي الذي يُجري اللقاء معه: كيف يمكن للنظام نفسه، والحكم والجيش ذاته، لا يُعطى لفرد فيه بينما يُعطى للآخر؟ فيرد طلاس: «أنا كنتُ صديقاً للاتحاد السوفياتي». ومن عند هذه النقطة أبدأ تفصيل الفكرة.
فالعلاقات بين الدول لا تسير في كل الأحيان بشكل ميكانيكي صرف، والتجارب أكّدت ذلك. كلاسيكياً، يمكن للمصالح والمؤسسات أن تلعب دوراً مهماً ورئيساً في العلاقات بين الدول، ولكنّ هناك جانباً آخر يمكنه أن يلعب دوراً مماثلاً، بل وربما أمضى وهو المتعلق بالعلاقات الشخصية، التي تُنسَج بين قيادتَيْ بلدين بمراتب مختلفة، سواء بين رئيسين أو حتى علاقات الصف الثاني.
وبعيداً عن كلام طلاس حول علاقة حكمت الشهابي بالأميركيين، إلاَّ أن ما يهم في الموضوع هو صداقة طلاس بالإتحاد السوفياتي وبالتحديد مع الجنرال أندريه غريتشكو الذي كان وزيراً للدفاع في الاتحاد السوفياتي ما بين 1967 – 1976، وأحد أقطاب السلطة في موسكو، كنموذج من نماذج العلاقات الشخصية التي كانت قادرةً على عقد صفقات كبرى وتحريك ملفات متكلسة أو على الأقل تحتاج إلى مَن يضمن تحريكها بشكل آمن وبفعالية أكبر.
لقد عرفت العديد من الدول هكذا علاقات بين زعاماتها، وكانت مؤثرةً في نواحٍ عديدة. في العلاقات الخارجية وفي الملفات الاقتصادية وفي صياغة الأحلاف حتى. فكان للعلاقة الخاصة بين الرئيس التنزاني الراحل جوليوس نيريرى (1922 – 1999) مع الرئيس المصري الأسبق جمال عبد الناصر (1918 – 1970) دورٌ لأن يكونا من مؤسسي «منظمة الوحدة الأفريقية» (التي تحوّلت تالياً إلى الاتحاد الأفريقي).
وكان لروابط حاكم رومانيا المطلق نيكولاي تشاوشيسكو (1918 – 1989) الوثيقة مع الرئيس المصري الأسبق محمد أنور السادات (1918 – 1981) دورٌ في إتمام مباحثات السلام بين مصر و»إسرائيل»، حيث رتّب الأول لزيارة الثاني لـ»إسرائيل» بعد أن اتصل بمناحيم بيغن (1913 – 1992) الذي كان رئيساً لوزراء «إسرائيل» وشريك السادات في اتفاقية «كامب ديفيد» الشهيرة.
وكانت العلاقة الشخصية المتينة ما بين الرئيس الفرنسي الأسبق جاك شيراك وصدام حسين سبباً من أسباب تكوين موقف فرنسا المناهض للحرب على العراق سنة 2003. وكان لصداقة الأمين العام السابق للأمم المتحدة كوفي أنان بالملك المغربي الراحل الحسن الثاني دور أساسي في تحريك ملف الصحراء الغربية، ودفع مبادرات وزير الخارجية الأميركي الأسبق جيمس بيكر كمبعوث شخصي لحل قضية الصحراء منذ ديسمبر/ كانون الأول من العام 1997 ولما بعد وفاة الملك الحسن.
وفي أحيان أخرى تنتقل العلاقات بين زعامات الدول وشخصياتها السياسية والعامة، إلى تسوية أوضاع داخلية في هذا البلد أو ذاك. حصل ذلك في الوساطة التي قام بها رئيس النيجر محمد يوسفو بين كل من الرئيس الموريتاني محمد ولد عبد العزيز والمعارض السياسي ورجل الأعمال الموريتاني المصطفى ولد الإمام الشافعي في ديسمبر من العام 2012. وحصل ذلك في ساحل العاج عندما توسّط رئيس حزب تكتل القوى الديمقراطية في موريتانيا أحمد ولد داداه قبل شهور لتسوية خلاف حزب الجبهة الشعبية الايفوارية والأممية الاشتراكية في أبيدجان.
ما أود أن أشير إليه هنا، أن مشاكل الدول قد لا تكون محكومة بعلاقات يتم تسويتها عبر القنوات الكلاسيكية، بل إن هناك مساراً آخر يمكن أن يُسلَك للتسويات تكون فيه الثقة والزخم أكبر، كما رأينا في مشوار العديد من الدول. وفي ظل أزمات المنطقة التي لا تنتهي، يمكن أن يلعب هذا المسار دوراً مؤثراً في حلحلة المشاكل القائمة. وهو أمرٌ لا يجب إغفاله، بل التعويل عليه أكثر من أي بديل آخر في ظل انسداد آفاق المستقبل أمام الجميع، كونه يعتمد على جانب الثقة المتبادلة، التي عادةً ما يُشعَر بها حتى قبل أن يتم فهم المشكلة كما كان يقول وودي آلن.
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 4671 - الأحد 21 يونيو 2015م الموافق 04 رمضان 1436هـ
دور سمو امير دولة الكويت
لا ننسى دور سمو أمير الكويت في اجراء العديد من الوساطات في وبين الدول
تجربة رفسنجاني والملك عبد الله كذلك
وكانت لصداقات الرئيس الايراني السابق هاشمي رفسنجاني مع الملك الراحل عبد الله بن عبد العزيز دور في عودة العلاقات السعودية الايرانية في السابق