في تشريح الدولة الأميركية وسياساتها حديث معقّد لكن جزءا منه مُتاح. فهي إن أوصلت القلوب إلى سكينة الديمقراطية التي تعتاش عليها أو تُحاول تصديرها (عبر الفوضى الخلاّقة) إلاّ أنها لم تستطع أن تُقنع العقول عن أشياء كثيرة، بات قيحها يتسرّب بلا تحكّم من جدار مثقوب.
شبّ العقل السياسي الأميركي على أرث غير متجانس من السياسات، لكنه استقرّ على «ضرورات المصالح». فحين تسلمت واشنطن مُهمّة قيادة العالم على الجنبة الرأسمالية بعد الحرب العالمية الثانية، بدأت في انتهاج سياسة داخلية وخارجية تتماهى بشكل عضوي مع ذات السياسة التي كانت تتبعها منذ إرهاصات الاستقلال وحربها الأهلية.
التجلّي الأبرز في الخارج كان حروبا استباقية طاحنة كررتها في أكثر من 130 دولة. بل إنها مارستها في داخل جوفها عندما اعترك الاتحاديون بقيادة ابراهام لنكولن مع إحدى عشرة ولاية جنوبية قادها جيفرسون ديفيس خلال الحرب الأهلية فسال دم غسل نصف القارة الشمالية.
ورغم أن دخول الأميركيين في أتون الحرب الباردة مع الاتحاد السوفياتي قد حدّ من جنونية تلك السياسة والأسلوب في التعاطي مع الأحداث والقضايا العالمية، إلاّ أن ذلك لم يمنع الأميركيين من تعويض ذلك عبر ممارسات أخرى تحفظ لهم القدرة على قضم ما يشاؤون في السياسة والاقتصاد وحتى الثقافة.
ضمن جردة التعويضات تلك سعى الحزبان الأميركيان (الجمهوري والديمقراطي) إلى تقوية الروابط داخل منظومة المصالح التي يشترك فيها ساسة وتُجّار وقوى ضغط يتبادلون فيها الأدوار والعطايا.
في الداخل الأميركي حصل ما يُشبه التجيير المؤسساتي لذلك الحلف الأسْوَد. فأصبحت قوانين الكونغرس تُصدّر على هيئة منفعة عامة وقومية، لكنها تستبطن مصالح شخصية لأصحاب الذوات.
في قضية لويس سولون روزينستيل صليل مسموع. فهذه الشركة المعنية بالمُسْكِرات والتي اعتاد صاحبها أن ينسج علاقات جيّدة مع أعلى الشخصيات السياسية والقضائية في الولايات المتحدة تمّ إنقاذها بقرار من الكونغرس، نظرا لتشابك مصالح مُلاّكها مع سياسيين ونوّاب.
ولأن الضريبة الجديدة كانت تُلزِم الشركة بدفع 10.5 دولارات عن كلّ جالون من المشروبات الكحولية التي كانت تعجّ بها مستودعات الشركة، فقد تكفّل لو نيكولز أن يحشد تأييدا في الكونغرس ليصدر قانون فورانت الذي استثنى الويسكي المُخزّن لدى الشركات من دفع الضريبة مدة اثني عشر عاما (راجع امبراطورية الشّر الجديدة لـ «عبد الحي زلّوم»).
في الخارج لم يكن الأمر أقلّ سوءا من مافيا الداخل. فقد أدخل الأميركيون العالم في حركة تجارية سريعة عن طريق العديد من الاتفاقيات الاقتصادية وممارسة الضغوط على بعض الأنظمة السياسية للقبول بالاشتراطات الموضوعة، ثم تحريك السوق السوداء بسماسرة يعملون لصالح الاقتصاد الأميركي.
وقد أصبح لزاما على العديد من الأنظمة الرخوة في العالم أن تقبل بالعروض المُقدّمة لها. لقد كانت الاتفاقيات الدولية المُلزمة للدول بأن تفتح أسواقها لخارج الحدود أمرا لا يمكنه إلاّ أن يدخل ضمن هذا السياق. فمقررات صندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية كلّها تصبّ في هذا المجال.
الأكثر أهمية في ذلك هو العتبة التي تلي مسألة المديونية عندما تُبتَزّ الدول الضعيفة على عمقها الحضاري وتاريخها وثقافة شعوبها، حين تمارس العناد بشأن اشتراطات تلك المنظمات.
وربما مثال جمهورية جزر القمر دليل ناجز على ذلك. فهي تُطالَب بدفع عشرة ملايين دولار للبنك الدولي في حين لا تزيد موازنتها على الخمسة وعشرين مليون دولار! حينها تدخل تل أبيب كطرف يُقدّم عروضا سخيّة لهذه الجمهورية الفقيرة نظير تواجد صهيوني على أرضها.
ليس عصيّا على أحد بأن يقرأ تلك التفسيرات كما هي، لكنها ستبقى محلّ تسخيف من قِبَل العديد من المثقفين الذين اختلطت لديهم الأولويات. عندها يصبح الكُل قربانا رخيصا لما هو أدنى منه.
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 2493 - الجمعة 03 يوليو 2009م الموافق 10 رجب 1430هـ