في فلسطين المحتلة، يواصل العدو اغتصابه المنظَّم للأرض الفلسطينية بزحفه الاستيطاني الوحشي على بقية هذه الأرض في الضفة الغربية، لتتوضّح الصورة أكثر في أهداف العدوّ البعيدة، والتي تعمل على شطر الضفة الغربية إلى قسمين بشريط استيطاني يعلن نهاية الدولة الفلسطينية قبل ولادتها، في الوقت الذي يستمع رئيس وزرائه لمزيد من التصفيق الأوروبي والأميركي، بعدما تحدث لفظيا عن شيء سمّاه الدولة الفلسطينية، بل لعلّه بات واضحا سعي العدوّ من خلال ذلك إلى إنهاء القضية الفلسطينية ميدانيا وواقعيا.
وفي الاتجاه نفسه، يتواصل زحف الموفدين الأميركيين إلى المنطقة لتهيئة الأجواء العربية لتوطين الفلسطينيين خارج فلسطين، والتمهيد لمفاوضات قد تبدأ بعدما تنتهي «إسرائيل» من مشروعها لإنهاء الدولة، لتكون المسألة - فيما هي الخطة الأميركية الإسرائيلية - مصالحة العرب مع عدوّهم وتطبيع الوضع معه، بعد تغييب الشعب الفلسطيني عن المسرح، وتشتيته رسميا هذه المرة بعد التشتيت القصري الذي تسبب به الاحتلال ومجازره في مدى زمني يزيد على الستين عاما.
ونحن في هذا الوقت نستمع إلى ما يصدر عن اللقاءات الحوارية بين حركتي فتح وحماس، كما نسمع توجيهات عربية حاسمة مفادها أن على الفلسطينيين أن ينهوا حوارهم جديّا في الأيام القليلة المقبلة، لنلاحظ بأن البرنامج العربي الذي أُعدّ للحوار الفلسطيني - الفلسطيني، يكاد يكون نسخة طبق الأصل عن البرنامج الغربي الذي يريد للفلسطينيين أن يتوحّدوا في الشكل، ليتم التوقيع النهائي في احتفالية التسوية الكبرى التي يصرخ فيها العرب، وتصرخ فيها كثير من الدول الإسلامية، قائلة: «لقد وقّع أصحاب القضية، فهل يبقى أمامنا إلا التوقيع»؟!
إننا نحذّر الفلسطينيين عموما، وفصائل المقاومة والانتفاضة على وجه الخصوص، بأن ما يُعدّ لهم هو أخطر بكثير مما جرى في «أوسلو»، أو في الاتفاقات العربية السابقة مع العدوّ، ولذلك فإن عليهم أن يتعاملوا مع الوضع الدولي والعربي بدقّة متناهية، ومتابعة سياسية عالية، وبصمود استراتيجي في خط المواجهة على جميع الجبهات الجهادية والسياسية... وإننا في الوقت الذي نؤكد فيه على الوحدة الفلسطينية الداخلية، نشدد على أن تتحرك هذه الوحدة في خط استمرار جذوة المقاومة، والمحافظة على قضية فلسطين من دون أدنى تنازل. وعلى الشعوب العربية والإسلامية أن تقف إلى جانب الشعب الفلسطيني وفصائله المجاهِدة، فتدعمه بكل الإمكانيات والطاقات، حتى لا تذهب جهوده التحريرية ضحية التفريط العربي، والإفراط الدولي، والخذلان الآتي من المواقع الإسلامية المعنية بالقضية، والمسئولة عن التفريط بالقدس وما حولها.
وليس بعيدا من فلسطين، نلحظ خروجا للمحتل الأميركي من المدن العراقية، تحت ضغوط المقاومة من جهة، وبفعل الإصرار الشعبي العراقي على عدم الاعتراف بالاحتلال، والامتناع عن توفير أية فرصة له للامتداد في هيمنته واحتلاله، وهو ما حرصت على تأكيده السلطة السياسية العراقية، ولكننا نقول للشعب العراقي بكل فئاته وأطيافه، والذي أثبت للعالم بأنه شعب يتوق إلى الحرية والتحرر، ويرفض الاحتلال وكل مكوّناته، بأن عليه أن يكون واعيا للخطة السياسية الراهنة، والمرحلة الدقيقة والصعبة المقبلة، لأننا نلاحظ وجود علاقة معينة بين تصاعد الهجمات الوحشية التي استهدفت المدنيين العراقيين من كركوك إلى العاصمة إلى مدن الجنوب، وبين طموح الاحتلال للبقاء في العراق طويلا، وهو الأمر الذي تحدث فيه أكثر من مسئول أميركي ليعلن صراحة عن إمكانية البقاء في العراق لعشر سنوات مقبلة.
ولذلك، فإنني أدعو الشعب العراقي ومقاومته الشريفة من جهة، والسلطة السياسية العراقية الرسمية من جهة ثانية، إلى ملاحقة الاحتلال في كل صغيرة وكبيرة، وعدم إفساح المجال له للاستفادة من أيّ وضع سياسي أو أمني قد يكون هو المحرّك والدافع له، وأؤكد على العراقيين جميعا، وعلى المسلمين من السنّة والشيعة في العراق، أن يعملوا على جميع المستويات لحماية وحدتهم، وإعادة اللحمة فيما بينهم التي كان الاحتلال والجهات التكفيرية السبب في محاولات تمزيقها، وأن يبدأ العدّ الفعلي لبناء العراق الجديد بناء وطنيا كاملا، تسقط معه كل دعوات التقسيم و «الفدرلة»، وتنطلق معه ورشة البناء العمراني والسياسي والاقتصادي والاجتماعي على جميع المستويات.
أما الجمهورية الإسلامية في إيران، التي فاجأت العالم بحيوية شعبها وروحيته المتحركة في المجالات الانتخابية والسياسية، وفي هذه الحرية الممتدة في حركة الشارع، والتي أضفت على النظام الإسلامي طابعا حركيّا مميّزا قد لا نجد مثيلا له في طول المنطقة وعرضها، لا بل حتى على المستوى العالمي، فقد استطاعت (هذه الجمهورية) أن تفاجئ العالم مجددا في سرعة امتصاصها للمشاكل الصغيرة الناشئة من الحرية التي أتاحها النظام الإسلامي على مستوى الاعتراض القانوني على أية حالة شاذة في الانتخابات، وإفساحها المجال للتعبير عن ذلك حتى في الشارع، ومن ثم اعتماد حالة من الشفافية في إعلان النتائج الانتخابية أمام الناس.
إن ذلك كله يُسجَّل للنظام الإسلامي الذي أسقط كل محاولات الاختراق الخارجية، وانطلقت قياداته التي تمثّل الرموز الحركية الأساسية وعلى رأسها مرشد الثورة سماحة السيد الخامنئي، ورئيس مجلس تشخيص مصلحة النظام سماحة الشيخ رفسنجاني، في خطاب حاسم يؤكد وحدة القيادة في خط الثورة التي لا تخرج من ساحة حيوية إلا وتدخل في ساحة حيوية أخرى، ليس على المستوى الميداني فحسب، بل على المستوى السياسي والفكري والفقهي الذي نريده أن يواكب حركة هذه الجمهورية المباركة، ليرصد نقاط الضعف فيها فيعمل على تحويلها إلى نقاط قوة، ويرصد الوهن الذي قد يصيب النظام في بعض خطوطه فيعمل على معالجته بروح وحدوية حوارية يشترك فيها الجميع، ليعطوا قوة جديدة وفاعلية جديدة، وهو الأمر الذي نريد للشعب الإيراني كلِّه أن يساهم فيه بوعي ووحدة وانفتاح.
ونصل إلى لبنان لنلاحظ بأن البلد الذي يئن تحت وطأة المديونية المتوحشة، والأزمات المعيشية المتفاقمة، ويكتوي بنيران أسعار المحروقات التي تلهب ساحات الفقراء - وما أكثرهم في لبنان - ويعيش في ظلمة دامسة وسط حَرّ الصيف، نلاحظ أن لبنان هذا لا يزال صغيرا في حركة الكثيرين داخله الذين يعيش بعضهم حالات الزهو الرخيص لحساب هذا الزعيم أو ذاك، ولا يعيشون صحوة ضمير واحدة أمام ما جَنَتْه أيديهم في الاعتداء على أمن الناس وسلمهم وأرواحهم، كما حصل في بيروت بعد الذي حصل في الضاحية، من إطلاق رصاص متخلّف تحوّل إلى رصاص قاتل.
إن الغريب في هذا «اللبنان»، أو بلد الإبداع والإشعاع كما يحلو للكثيرين أن يسمّوه، أو كما نريده جميعا، أن أموره تُطبخ في الخارج وأوضاعه تُرسم في الصالونات العربية والإقليمية والدولية، بما في ذلك خصوصياته في المجلس النيابي والحكومة، وحتى على مستوى أسماء الوزراء والكثيرين من النواب، ومع ذلك فإن شعارات الحرية والاستقلال والسيادة تطفو على السطح، ومشاعر الإخلاص للزعامات تنتصر على مشاعر الاحترام للبلد وأمنه وكرامة أبنائه جميعا، والكل يهتف بعد كل حالة من حالات السقوط الإنساني والحضاري ممجّدا للبنان الواحد الموحَّد، الذي تحوّل إلى صنم يُعبد على مستوى الشعارات السياسية، ولكنه كرة تُرمى في الملاعب الإقليمية والدولية على مستوى الممارسات اليومية.
إن لسان حال الناس التي لا تزال تعيش الوعي أمام هذا الوحل السياسي الذي تحوّل إلى سلعة مذهبية وطائفية وشخصانية، يخاطب الجميع: عودوا إلى رشدكم، حتى يؤوب الشعب إلى سلامه وأمنه الاجتماعي الذي استُبيح مرارا وتكرارا وعند كل مناسبة وموعد، فقد أعطاكم الناس أصواتهم بالجملة والمفرق في الانتخابات وفي كل ملهاة سياسية داخلية، ولم تعطوه أمنا ولا استقرارا سياسيا أو اقتصاديا أو اجتماعيا، ولا خطة لمواجهة تحديات العدوّ، وماذا بقي في جعبتكم أن تقدّموه في قادم الأيام بعدما أُنجزت في الخارج - أو كادت - ملامح التشكيلة الحكومية القادمة، وبقي على الداخل أن يبلور تفاهم الخارج وينسج على موّاله... وأخيرا نقول: قليلا من الحياء السياسي يرحمكم الله!
إقرأ أيضا لـ "السيد محمد حسين فضل الله"العدد 2493 - الجمعة 03 يوليو 2009م الموافق 10 رجب 1430هـ