يحتاج العدو الصهيوني إلى معطيين اثنين على أرض الواقع، كي يضمن اعتراف دول الوطن العربي ودول العالم أجمع، به كدولة يهودية. المعطى الأول: تجريف الشخصية الحضارية للمنطقة العربية، والمعطى الثاني تفتيت دول المنطقة، وتقسيمها إلى كيانات طائفية هشة، تقوم المواطنة فيها على الفرز الديني والمذهبي.
دولة الصهاينة كيانٌ عنصري حتى قبل أن تقوم على الأرض، وقبل حتى فترة التمهيد الفعلي لقيامها. دولة العدو كانت كياناً عنصرياً بامتياز، منذ أن كانت مجرد فكرة تم طرحها من قبل تيودر هرتزل خلال مؤتمر بازل الذي انعقد في العام 1897. لكن وعلى رغم هذه الحقيقة، فإن الكيان العنصري منح جنسيته للعرب الذين لم يغادروا ديارهم في العام 1948. ومنذ ذلك التاريخ وحتى الآن، وصل تعداد سكان الأقلية العربية من حاملي جنسية العدو، إلى ما يربو على مليون ونصف مليون إنسان، منهم المسلمون والمسيحيون والدروز وبعض الصابئة.
التطور النوعي الذي يسعى كيان العدو لإقراره وشرعنته بعد اعتراف الوطن العربي ودول العالم به، هو يهودية الدولة. وهو هدف لم يعلن العدو عن سعيه للوصول إليه، إلا قبل سنوات قليلة.
من الناحية القانونية، فإن الاعتراف بالكيان الإسرائيلي باعتباره دولة يهودية، أو دولة لليهود، سيترتب عليه منح العدو الحق في طرد جميع مواطنيه ممن لا يدينون باليهودية. وهذا يعني وبعيداً عن كل انعكاسات الاعتراف بيهودية الدولة من تصفية شبه نهائية للقضية الفلسطينية، أن المنطقة ستكون إزاء سابقة تاريخية، إذ لم يسبق لأية دولة من دول الوطن العربي، الاعتماد على الفرز الديني أو المذهبي باعتباره العامل الحاسم في منح أو حجب حق المواطنة.
المطلوب إذاً تحويل الكيان الصهيوني من كيان شاذ في المنطقة إلى كيان متناغم معها. وهو ما لن يحدث قبل تجريف شخصية المنطقة الحضارية القائمة على تعددية لا نظير لها في أية منطقة من مناطق العالم. ذلك أن المنطقة العربية احتوت ولازالت، على آثار تاريخية وشواهد حضارية للمسلمين واليهود والمسيحيين الأرثوذوكس والرومان الكاثوليك والرومان الوثنيين، إضافةً إلى الفراعنة والآشوريين والكلدانيين والسومريين والإغريق. هذا الثراء الحضاري الذي يضم كل ألوان الطيف، امترج بشخصية المنطقة الحضارية، بل وصنع أهم سمات وملامحها، والأهم أنه انعكس على خريطة المنطقة الديموغرافية، فتوزّع المكوّن السكاني فيها، بين العديد من الأديان والمذاهب التي قاربت إن لم تزد، على العشرين.
المطلوب الآن هو تدمير هذه الشخصية، أو بمعنى آخر تدمير ذاكرة المنطقة عن طريق تعقب أكبر قدر ممكن من الآثار التاريخية، وهي مهمةٌ ابتدأها العدو الصهيوني وكان لموشي دايان وزير دفاعه خلال الستينيات والسبعينيات، دورٌ بارزٌ فيها. لكن العدو لم يحقق النجاح المرجو، فانتظر الأميركيون الفرصة لممارسة هذا الدور التخريبي على نحو بشع في العراق بعد احتلاله. واليوم تقوم «داعش» بإتمام الخطة الجهنمية على أوسع نطاق ممكن، حيث تمارس ذلك باعتباره جزءًا من حربها الواسعة ضد جميع المكوّنات «الكافرة» في المنطقة.
حرب الهوية هذه تمخض عنها تهجير عدد غير قليل من المسيحيين العرب الذين يشكل بقاؤهم تهديداً لنجاح الخطة. أما الشيعة في أكثر من بلد، فقد لجأوا إلى تشكيل الميليشيات -الحشد الشعبي في العراق مثلاً- التي قامت أول ما قامت لحماية الشيعة من التفجيرات الانتحارية التي استهدفت ولازالت تستهدف، تجمعاتهم ومقدساتهم. وسرعان ما اكتسبت هذه الميليشيات نفوذاً عظيماً على أرض الواقع، وتورّطت في ممارسة طائفية مضادة، لم تكن لتحدث لولا وجود حالة الفراغ السياسي والأمني التي نتجت عن هشاشة الدولة وضعف مؤسساتها. وهنا يجب ألا يغيب عن ذاكرتنا أن أول القرارات التي اتخذتها سلطات الاحتلال الأميركي في العراق بعد إزاحة نظام صدام حسين، تمثل في حل مؤسسة الجيش وجهاز الشرطة، تمهيداً لوقوع البلاد في حالة فراغ أمني كامل.
إن ما يحدث الآن يؤكّد بأن مخطط الشرق الأوسط الجديد وأداته المسماة بالفوضى الخلاقة، كانت تهدف إلى إقامة «إسرائيل الكبرى»، وهو ما لن يحدث إلا بتفتيت كيانات معظم دولنا الوطنية، وتحويلها إلى كيانات طائفية هشة تعلن الحرب على بعضها البعض، وتسالم «إسرائيل» بلا شروط.
لقد قلت مراراً أن السلام مع «إسرائيل» لا يعني التخلّي فقط عن المطالب المشروعة المتمثلة في إقامة دولة فلسطينية كاملة السيادة وعدم التخلي عن حق العودة، وإنما يعني أيضاً الانجرار إلى مستنقع الاقتتال الداخلي وتعميق حالتي التخلف والفقر. وقد بدأنا في الوصول فعلياً إلى هذه المرحلة منذ أن أصبح لرجال الدين الدور الأبرز في تكوين ملامح الخطاب الثقافي والسياسي بل وحتى الاقتصادي في المنطقة. ومما يتوجب ذكره في هذا الصدد، أن جلّ رجال الدين الذين يقومون بصياغة الخطاب الثقافي والسياسي للمنطقة هم من المشائخ ذوي النزعة الطائفية، وممن لا يملكون رصيداً يُذكر على صعيد الفكر أو التأليف أو الاجتهاد. إنهم مجرد نجوم تمت صناعتهم في استوديوهات الفضائيات المشبوهة، بغرض تعميق حالة الجهل، تمهيداً للوصول إلى حالة النكوص الأكبر، وأعني بها العودة بالإنسان إلى مرحلة الغرائزية، حيث تصبح غريزة الدفاع عن البقاء هي دافعه السلوكي الأول.
بكل أسف فإننا نعيش اليوم في ظل هذا النكوص الخطير، وهو ما لم يكن ليحدث لولا ترسيخ مفهوم الطائفية ليس باعتباره بديلاً لمفهوم الوطن وحسب، وإنّما باعتباره أيضاً خطاً دفاعياً لاستمرار وجود الفرد والجماعة التي ينتمي إليها. وهو ما يتجسد في حالتنا هذه، في القناعة السائدة على المستوى الشعبي في أكثر من مكان بالوطن العربي، بوجود خطط عملية لممارسة التطهير الطائفي.
لا تطبيع بلا طائفية ولا طائفية بلا تطبيع... ولا «إسرائيل كبرى» دون وجود الأمرين معاً.
إقرأ أيضا لـ "أنس زاهد"العدد 4670 - السبت 20 يونيو 2015م الموافق 03 رمضان 1436هـ
الطائفية
الطائفية المخيفة هي التي تمارس بشكل رسمي أي يكون التمويل رسميا في صناعة الطائفية تقضي ع كل وحدة بين أطياف الشعب الواحد من أجل ضمان وجود كيان قوي للسلطة كما يعتقد صناع القرار الرسمي قتقوم مثلا ع تقريب جماعة أو فئة ع حساب أخرى أو إقصاء فئة بسبب ضعف ولائها أو تقوم بتهميش أفراد من المجتمع كونهم يمثلون فقط الفئة الاكبر ف مجتمع السلطة.
نستحق لأننا طائفيون
إذا كنا طائفيين بين أنفسنا ؛ فلم الغرابة؟ أنظر إلى الوطن العربي من فيه غير طائفي؟ حتى الشيوعيون و الليبراليون و العلمانيون طائفيون.