أسواق المدن الرئيسية في القرون الإسلامية الأولى، كانت تنظم بحسب نظام معين، فقد كانت لها تقاسيم متخصصة بحسب ترتيب معين، ويعتبر سوق البصرة واحد من أقدم هذه الأسواق. ويرى يوسف العلي في دراسته «أسواق البصرة في القرن الثالث والرابع للهجرة» أن أسواق البصرة، منذ بداية نشأتها، بدأت تتشكل بحسب نظام معين؛ حيث أخذت تنتظم في مجموعات تضم كل مجموعة الصناعات ذات المصالح المشتركة، ففي سوق المربد، مثلاً، نجد التبانين وسوق الإبل والدباغين في منطقة واحدة وكذلك القفالين على باب الصفارين، وتشكل كل مهنة سوقاً فرعية داخل السوق الكبيرة. ويرى العلي أن سوق البصرة ربما أصبحت أنموذجاً يتبع؛ فقد تم إنشاء عدد من الأسواق على هذا الأساس، فيشير أسلم الواسطي إلى أن أسواق واسط قد بنيت على هذا الأساس، كما أن يزيد بن حاتم المهلبي البصري قام بتنظيم سوق القيروان متبعاً الأسلوب ذاته، ولعله تأثر بأسواق مدينة البصرة (العلي 1973). كذلك أسواق مدينة تلمسان التي كانت قاعدة المغرب الأوسط، تم تقسيمها على نفس هذا الأساس (بن صديق 2013). ويلاحظ أن كل سوق تخصصية ينشأ عنها إما سوق يحمل اسم المهنة أو حي يحمل اسم المهنة ذاتها.
البحرين، كذلك، ليست استثناء فقد نشأت فيها أسواق تخصصية بمثل نمط الأسواق السابقة، أي ظهور تجمعات متخصصة لأصحاب المهنة الواحدة، ففي المنامة، على سبيل المثال، مازال عدد من أحيائها تحمل أسماء مهن؛ حيث كان بها سوق خاصة بهذه المهنة. ونحن نرجح وجود سوق أقدم من سوق المنامة تأسست بمثل نظامها، ونرجح أنها كانت في البلدة القديمة التي كان مركزها مسجد الخميس. ولا نقصد بالبلد القديم هنا، منطقة البلاد القديم بحدودها الحالية، وإنما نقصد البلد القديم بمعناها الاصطلاحي، أي المدينة القديمة التي نشأت حول مركز القيادة الدينية في البحرين قديماً. وهذه المنطقة كانت شاسعة، وهي موزعة حالياً في عددٍ من المناطق المحيطة بالمسجد. وعلى رغم عدم وجود دلائل تاريخية واضحة وصريحة تنص على ذلك، إلا أنه يمكن ترجيح أن بهذه المنطقة كانت العديد من الخدمات والأسواق المتخصصة، وذلك من خلال تتبع أماكنها بحسب تسميات الأحياء والأماكن التي بقيت حتى يومنا هذا، كأسماء الأحياء في جدحفص (السوق، والمحاسنية، والبناءة، وغيرها)، وكذلك حي أو قرية الصفافير. ومنها، كذلك، عين القصارين؛ فوجود هذه العين بهذا المسمى يؤكد وجود طبقة عاملة متخصصة، كانوا يعملون كقصارين.
حي القصارين وسوق القصارين
لم تكن الأسواق القديمة، التي سبق ذكرها، تخلو من سوق للقصارين، وقد تم الإشارة لموضع هذه السوق إما بمسمى سوق القصارين، كما في أسواق البصرة (العلي 1973)، أو باسم حي القصارين كما في تلمسان (بن صديق 2013، ص 70) أو بالإشارة لعين ماء خاصة بهم كعين القصارين، كما في دمشق. والقصارين، جمع ومفردها القصّار، وهي إحدى المهن الشاقة والتي عرفت منذ القدم، وينسب لهذه المهنة فيقال القصّار (الموسوي 2014) أو القصاري (السيوطي، طبعة دار الكتب 1991، ج2: ص 182). وأفضل وصف لمهنة القصّار وردت في كتاب «المهن الشامية»؛ حيث جاء في تعريف القصّار:
«هو من يقصر القماش، أي ينقيه من الأوساخ والأدناس. وبدمشق محل مشهور من قديم، يعرف بعين القصارين، غربي دمشق، بمحل يعرف بالمرجه، موجود فيها عين ماء، وعلى أطراف العين المذكورة أرض واسعة معشبة، يخرج أصحاب هذه الحرفة بالقماش الذي يلزمه قصر إلى ذلك المحل، ويغسلونه بماء تلك العين، وينظفونه، وينشرونه على ذلك المرج... وعندما ينظف ويقصر لونه، أي يبيض، يتركونه حتى يجف، فيجمعونه ويأتون به إلى البلدة. وبالجملة فهي حرفة يتعيش بها أناس كثيرون. وهي حرفة مؤلمة، تورث تعباً ومشقة. وعين القصارين المذكورة منزه لطيف، ماؤه عذب، يقصده زمن الصيف غالب أهالي دمشق» (القاسمي وآخرون 1988، ص 353 - 354).
وقد ذكرت مهنة القصّار في الأشعار، وممن ذكرها الشاعر أبو الحسين الجزار (توفي العام 1273م):
أحمل نفسي كل يوم وليلة
هموماً على من لا أفوز بخيره
كما سود القصّار في الشمس وجهه
حريصاً على تبييض أثواب غيره
يذكر أن القصارين، ومنذ القدم، شكلوا طبقة عمالية مميزة. ولهذه الطبقة ذكر في حضارات الجنوب الرافدي؛ فقد عثر على نقوشات على قطع حجرية عبارة عن عقود بين أفراد وجماعة من القصارين، وتعود هذه العقود للقرن السادس قبل الميلاد (Waerzeggers 2006).
عين القصارين أو عين قصاري
في البحرين كانت هناك عين مخصصة للقصارين، وقد عرفت هذه العين باسم عين القصارين، ثم خفف الاسم فأصبح اسمها عين قصاري. وقد كانت العين تتكون من جزءين، وكان يعرف الجزء الأول باسم عين قصاري الصغرى وكانت تستخدم من قبل القصارين، وقد عمل فيها قصارين من المناطق المجاورة نفسها لها، وللأسف الشديد لم يتم توثيق أي شيء عن هذه المهنة التي انقرضت. كذلك، فقد عمل فيها غير البحرينيين في مهنة غسل الملابس، وعرفت لاحقاً باسم عين الدوبية، وهي كلمة دخيلة، لها نفس معنى القصارين. أما الجزء الثاني من العين فهو عين قصاري الكبرى، وقد كانت تستخدم لري الأراضي الزراعية والاستجمام.
وتعتبر مهنة القصارين، في البحرين، من المهن القديمة، وتعتبر عين قصاري أقدم موقع عرف لممارسة هذه المهنة في البحرين؛ فقد ورد ذكر «عين القصارين» في نقش قديم يرجع تاريخه للعام 776 هجرية (1374 م) وقد عرف هذا النقش باسم نقش «الوقفية» لأنه تضمن مجموعة من أسماء النخيل التي تعتبر وقفاً، ويرجح أنه يوثق ترميم مسجد الخميس والأوقاف التابعة له (راجع كتابنا مسجد الخميس لمزيد من التفاصيل). النقش يتكون من قطعتين، النص الذي نقش على القطعة الأولى يتكون من أربعة أسطر، أما نص القطعة الثانية فيتكون من سطرين وهو ما يهمّنا هنا، ونصه كالتالي:
(1) أيضاً يضاف على نصف حمكان مع صرمر فوليان جوبار.
(2) عين القصارين الصغرى الغربي وقفا شرعيا متقربا إلى الله تعالى.
أطلال عين قصاري
عين قصاري كانت تحمل الكثير من التاريخ الذي لم يوثق، ولم يبقَ من هذه العين أي أثر مادي، سوى أثر محدود في الذاكرة الشعبية. ففي النصف الثاني من القرن العشرين بدأت العيون الطبيعية في البحرين تتدهور، وبدأت ينابيعها تجف، وبدأ حينها مسلسل ردم العيون الطبيعية. عين قصاري ليست استثناء فعند ما قل تدفق نبع عين قصاري الكبرى، تم ردمها في العام 1985م، وحولت إلى ملعب لكرة القدم ثم حولت لحديقة عامة. أما عين قصاري الصغرى أو الدوبية، فقد فقدت أهميتها، لكساد مهنة تغسيل الملابس في العيون. وعندما هجرت، تم ردمها وبناء مكانها متنزه، متنزه عين قصاري، وذلك في العام 1972م (القصيبي 1997، ص 58- 61). وهكذا تم طي صفحة عريقة من تاريخ البحرين دون أن توثق. فلم يبقَ للعين أثر ولم يبقَ لمهنة القصارين ذكر.
الخلاصة، أن وجود عين للقصارين، إضافة لأحياء أخرى، كالصفافير وغيرها، كلها تعتبر مؤشرات على وجود أسواق متخصصة، وجميعها متركزة حول المنطقة التي بني بها مسجد الخميس، ما يجعلنا نرجح وجود بلدة قديمة بها سوق منظمة بحسب نظام الأسواق القديمة في المدن العريقة.
العدد 4669 - الجمعة 19 يونيو 2015م الموافق 02 رمضان 1436هـ
دي الصورة في السنابس مكانها روضة البراق الان
وتبدو مدرسة السنابس الابدائية للبنين خلف الصورة اما تاريخ الصورة يغود الي سنت 1971 تقريبا
تصحيح للتاريخ
قصاري الكبرى ردمت في عام 1976م وهذه شهادتي كمعاين للواقعة التي لا زالت عالقة في ذكرتي ..وليست 1985م .. وقد تكون اكبر عيون البحرين لأنها مساحتها تفوق ملعب كرة قدم .. وبححم الحديقة الحالية تقريبا ولم يبق من اطلالها الا مسجدا في الزاويا الغربي الجنوبية يسمى مسجد العبد وقد جدد حديثا ( بعد الأحداث )بأموال المحسنين ..
وأما الصورة لا علاقة لها بقصاري لا الصغيرة ولا الكبيرة ...وأظن لميناء المنامة القديم والله اعلم ( احد ابناء القرية ع. أ .ع .ح . ن)