يتحدث الفيلسوف الفرنسي وعالم الاجتماع أوليفييه روا في كتابه «الجهل المقدّس»، عن المواجهة بين ظاهرتي التديّن والعولمة أو الثقافة العالمية التي تعيش خارج إطار الأديان. ويستعرض روا إشكالات هذا الصراع الممتد على طول الأديان المعروفة. توقفتُ في خضمّ الكتاب عند حديثه عن الإيمان، الذي يقول فيه إن الإيمان لا يمكن إلا أن يكون فردياً، ولكن رجال الدين يسعون إلى أن يكون جميع أفراد المجتمع متدينين، إلا أنهم، ويا للمفارقة، لا يستطيعون ضمان هذا الإيمان أو إثباته، وكل ما يستطيعون فعله هو مراقبة الناس والحكم عليهم بالمظهر، وهذا في حد ذاته ليس دليلاً على قوة إيمان الفرد أو الجماعة، لأن الإيمان شأنٌ خاصٌ لا يمكن إثباته أو نفيه بالممارسات العامة للشعائر.

إن ما يُريد روا قوله هو إن ادعاء مجتمع ما بأنه متدين لا يمكن التأكد من صحته، ولا يجب السعي إليه من الأساس. ولكن المتدبر لمجتمعاتنا العربية، التي تدّعي غالبيتها التدين والالتزام بممارسة الشعائر، يرى أنها تعيش انفصاماً نفسياً غريباً. فتجدُ أحدنا يصلّي ويصوم ويؤدي الفرائض بالتزام شديد، لكنه لا يتورّع عن شتم الناس والخوض في أعراضهم، وقد يكون سريع الغضب، قليل الغُفران، يتمسّك ببعض الممارسات والمظاهر، ويُعلي من شأنها دون أن يفكّر يوماً إذا كان ما يفعله صواباً أم لا.

قبل مدة، انتشر حوار حاد على شبكات التواصل الاجتماعي، حول مدى جواز لبس المرأة للعباءة الملوّنة، وصار الموضوع قضيةً عامةً، مال أكثر المتحاورين فيه إلى كون العباءة السوداء جزءًا من الهوية الإسلامية. وقال الأقل تشدداً بأنها جزء من الهوية العربية، ودليل على الاحتشام، واتفق الواقفون على هذه الضفة بأن العباءة الملوّنة قد تثير غرائز الرجل وتلفتُ انتباهه. أما الواقفون على الضفة الأخرى فأخذوا يسوقون الدليل وراء الآخر ليثبتوا بأن العباءة السوداء لم تكن جزءاً أصيلاً لا من التاريخ الإسلامي ولا العربي.

مشكلتي ليست مع لون العباءة، بل مع المشكلة نفسها، أي مع الحوار الذي طغى على العقل العام، حتى ليَشعُر أحدنا بأن لون العباءة أهم من مشكلات الفقر والجهل والإرهاب والتطرف وضياع العراق واليمن وسورية ولبنان وليبيا، وأخطر من المشكلات الاقتصادية، والأمراض المزمنة، وأزمة نقص المياه التي ستقبل عليها البشرية، ومنطقتنا على وجه الخصوص، وغيرها من القضايا الإنسانية المُلحّة.

إن الغوص في نقاشاتٍ سطحيةٍ كهذه والابتعاد عن مناقشة أو حتى إدراك القضايا الكُبرى هو بالضبط ما وصفه روا بـ «الجهل المُقدّس»، والذي زاد عليه محمد أركون بمصطلح آخر سماه «الجهل المؤسَّس»، أي الذي تأسس في مدارسنا وكتبنا ومفاهيمنا طوال فترة دراستنا ونشوئنا، حتى إذا ما كبرنا عليه صار مُقدّساً لا يمكن المساس به أو حتى مناقشته. ورغم اختلافي مع أركون في أطروحاته حول النصّ القرآني، إلا أننا يمكن أن نستخدم مصطلحه لوصف أزماتنا الفكرية اليوم.

من أسباب ترسّخ الجهل المقدّس في العقل الإسلامي والعربي، هو استغناؤنا بالإعلام عن التعلّم، حيث صارت الأخبار هي المصدر الرئيس الذي نستقي منه معلوماتنا، فصرنا نستهلك المعرفة ولا نمارسها، فضلاً عن استيعابها وفهمها. ولقد ساهمت فكرة «الخلاص» التي قدّمها رجال الدين منذ زمن الصحوة في الثمانينيات، في جعل العقل الإسلامي حبيساً للأفكار السطحية والسوداوية، فالخلاص لا يتطلب معرفةً بل إيماناً، هكذا قُدّم إلينا؛ فأخذ العقل الإسلامي يغوص ويتعمقّ في قضايا كمحاربة السحر، وتفاصيل عذاب القبر، وشكل وهوية المسيح الدجال، وغيرها، على حساب قضايا المعرفة والفكر والفلسفة، التي لو أتقنها العقل لوجد خلاصاً قائماً على الإدراك وليس على الماورائيات التي تثبّطه عن التساؤل والبحث، وتصيبه في أحيانٍ كثيرة بالبلادة والسطحية والقلق.

في هذا العام يُنهي أحمد الشقيري برنامجه الشهير «خواطر» حيث قضى أحد عشر عاماً وهو يحدّثنا عن أهمية التفكير والانفتاح وإعمال العقل في كل شيء. لكنني عندما أتابع القضايا التي تقضّ مضاجع مجتمعاتنا، وأعود لمشاهدة «خواطر»، أشعر بالأسى مرّتين، مرةً على استفحال الجهل في عقولنا، ومرةً أخرى لأنه رغم كل التعب والجهد والمال والتضحيات التي قدّمها الشقيري، وكثيرون غيره، مازلنا لا نعرف هل لبس العباءة الملوّنة جائز أم لا!