منذ نحو عشرين سنة، تناول المفكّر المغربي عبد الله العروي موضوع موانع نشأة الرأسمالية في المجتمعات الإسلامية. فإذا كان نشوء الرأسمالية في الغرب الأوروبي قد ارتبط بنشوء المدن الحرة المستقلة القوية كمدن البندقية وفلورنسا في إيطاليا، كما يجمع الكثيرون من الباحثين، فلماذا لم تنشأ الرأسمالية في العالم الإسلامي مع أن الإسلام نشأ في المدن، وحيثما انتشر مصّر الأمصار؟
كإجابةٍ عن هذا السؤال يشير عبد الله العروي إلى دراسات قام بها بعض علماء الاجتماع في الغرب، تظهر أن السبب يكمن في أن تلك المدن في الغرب لم تكن آنذاك مراكز لسلطة الحكم الإقطاعية، وبالتالي ظلّت بعيدةً عن قبضة سلطة الحكام، بينما المدينة الإسلامية كانت باستمرار قاعدة المُلْك، وبالتالي تحت قبضة الحاكم وما يفعل بأحوالها.
بسبب تمركز السلطة في المدينة الإسلامية، ظهرت ما يسميها العروي ظاهرة الاحتكار للاختصاصات، متمثلة في أن صاحب السلطة كان هو في الوقت نفسه أميراً وتاجراً، حاكماً وحكماً، متّهماً وقاضياً. ويخلص العروي إلى الاستنتاج بأن تمركز كل الاختصاصات، الحكم والتجارة والقضاء والأمن وغيرها، في يد الحاكم، منعت قيام النظام الرأسمالي الذي يتطلب وجوب تقسيم العمل والاختصاصات والسلطات.
تلك استنتاجاتٌ جديرةٌ بالتمعُّن فيها. فهي تفسيرٌ، على الأقل جزئي، لبقاء الاقتصاد العربي كاقتصاد ريعي متخلّف غير قادر على فكّ أساره والانطلاق نحو آفاق الاقتصاد الإنتاجي - المعرفي الحديث. وذلك يطرح السؤال الآتي: إذا كانت الظاهرة نفسها التي درسها علماء الاجتماع في تاريخ المدن الإسلامية لاتزال معنا في حاضر مدن العرب، فهل هناك أملٌ في أن توجد المدينة العربية القوية الحرّة المستقلة القادرة على زحزحة الاقتصاد الرّيعي، المستحوذ عليه من قبل قلّةٍ صغيرة، ليحل محلّه اقتصاد عصري إنتاجي - معرفي في حقول الصناعة والزراعة والتكنولوجيا وغيرها؟ ومن ثم اقتصاد هو ملك المجتمع بأسره وليس ملك صاحب السلطة؟
ولما كانت الظاهرة نفسها وإن بنسب متفاوتة، متجذّرة في مدن الممالك والجمهوريات، وأن نوع النظام السياسي ومسمّياته لم تعمل أيّ فرق ولا أيّ ضبط وتنظيم، فإننا نحن أمام ظاهرة عربية عامة بامتياز. لكن، لنكن حذرين بالنسبة لنقطتين أساسيتين: الأولى هي أن غياب سلطة الحكم التي تمارس احتكار التخصصات التي وصفنا تفاصيلها سابقاً لن يكفي وحده ليجعل المدينة العربية قادرة على توليد اقتصاد غير ريعي متخلّف. المدينة العربية ستحتاج أيضاً لأن تؤدّي دورها الكامل كحاضنة للعلم والبحث ووسائل الاتصال الإلكتروني والتطوير التكنولوجي، لتساهم في بناء اقتصاد إنتاجي - معرفي عصري.
النقطة الثانية تتعلق بمدى ديمقراطية ذلك الاقتصاد من حيث عدالة توزيع الثروة وبناء دولة الرعاية الاجتماعية، أي أننا لا نتحدث هنا عن الانتقال من نظام ريعي متخلف إلى نظام رأسمالي نيوليبرالي عولمي متوحّش وجائر.
وفي النهاية فإن وجود نظام ديمقراطي سياسي شرعي عادل، ووجود مجتمع مدني نشط مستقل وفاعل، هما الضمانة الوحيدة لمنع شطط النظام الاقتصادي المراد بناؤه.
لقد أنتجت المدينة الأوروبية القوية المستقلة الحرة نظاماً اقتصادياً رأسمالياً كان أحد أهم الأسس التي قامت عليها الحداثة الغربية. لكن مع الوقت تشوّه الكثير من الأسس والشعارات والقيم التي قامت عليها تلك الحداثة. وما صعود مدارس ما بعد الحداثة في المجتمعات الغربية إلا رد فعل لتلك التشوّهات ومحاولة يائسة لتصحيحها.
بالنسبة للمدينة العربية، التي نرجو أن تصبح هي الأخرى قوية وحرّة ومستقلة، فإن الأمل أن تسهم في بناء اقتصاد صالح لأن يكون أحد أهم الأسس التي ستقوم عليها الحداثة الذاتية العربية. قد تأخذ حداثتنا من حداثات الآخرين وتتفاعل معها، وقد تتعلم من أخطائها وفواجعها، ولكن من حقّها، بل ومن واجبها، أن تكون حداثة ذاتية تاريخياً، نابعة من واقع وحاجات وتطلعات وجهود الأمة العربية.
لقد أثبتت المدينة العربية في بدايات أحداث «الربيع العربي» أنها قادرةٌ على نفض غبار الاستكانة والخمول في سبيل شعارات الحرية والكرامة الإنسانية والعدالة الاجتماعية. مهمّاتها لم تنته بعد، إحداها أن تناضل من أجل أن تكون قوية مستقلة لتسهم في بناء اقتصاد غير ريعي وتقدمي عصري ينعش جسد الحداثة العربية المنهك.
إقرأ أيضا لـ "علي محمد فخرو"العدد 4668 - الخميس 18 يونيو 2015م الموافق 01 رمضان 1436هـ