دعونا اليوم نتحدث عن المغامرين ومغامراتهم. الشيء الأكيد أنهم ليسوا كُثُراً، كون المغامر هو مَنْ يُلقي بنفسه «في الأُمور المُهْلكة». شخصياً أهابُ المغامرة في كل شيء ما خلا القراءة. أهاب المغامرة في أن ألبس ما لم أعتد عليه، أو آكل أو أشرب ما لم أتذوقه أو بالأحرى ما لم اعتد أكله أو شربه، بالإضافة إلى أشياء أخرى.
وإذا كان الحال كذلك فإن المغامرة في أشياء أكبر هي أجلى من تلك التي ذكرتها، سواءً إن كان الأمر متعلقاً بسفر إلى مكان بعيد أو بكل شيء لا ضمانة فيه فيصبح تركه أولى. فالعمر لا ينقسم على اثنين، دون أن يعني ذلك جُبْناً. فـ «ليست الشجاعة في المخاطرة بلا خوف، بل في الإصرار على قضية عادلة» كما كان يقول المؤرخ الإغريقي بلوتارخ.
لكن، في أحيان كثيرة يكتشف المرء أنه مغامر دون أن يدري! وفي هذه الحالة يكون هذا النعت «مغامر» لقباً لا يستحقه رغم أنه مطابق لعنوان المغامرة وإن كان لا ينسجم مع جوهرها. فجوهر المغامرة هو أن يعلم المرء بالخطورة التي هو سائر إليها أو واقع فيها لكنه يصرّ على الإقدام والتحدي، وكأنه كسرٌ لإرادات بأي ثمن.
قبل سنتين من الآن قرأت خبراً هزَّني كثيراً. فقد أعلنت سلطات ولاية أوتاراخند بشمال الهند أن 600 بيت قد دُمِّر، وأن عدد القتلى قد يصل إلى 8 آلاف إنسان، وأن ما لا يقل عن 300 ألف شخص ظلوا محاصرين «بسبب الفيضانات وانزلاقات التربة»، وذلك لأن «معدل الأمطار المتساقطة فاق الكميات المعتادة في هذا الوقت من العام بنسبة 68 في المئة».
وقبل عشرين يوماً فقط، قرأت خبراً يتحدث عن انهيار أرضي أدى لأن ينطمر نهر كالي جانداكيفي في النيبال، نتيجة سلسلة زلازل وقعت منذ ما قبل شهرين أدت إلى حدوث فيضانات مفاجئة مدمرة، في ذلك البلد الفقير إلى درجة أن الجيولوجيين توقعوا حينها «حدوث فيضانات تصل إلى الهند». وعلاقة ذلك بالهند كون نهر كالي جانداكيفي يصب في الأراضي الهندية ويُعرف لدى الهنود باسم جانداك.
والمعروف أن زلزالاً ضخماً ضرب النيبال في نهاية إبريل/ نيسان الماضي (7.8 على مقياس ريختر)، ثم آخر أقلّ منه (7.3) في منتصف مايو/ أيار الماضي، أدَّيا إلى انهيارات أرضية فقُتِلَ ثمانية آلاف إنسان جراء ذلك. ومن شدّة الزلزال فإن ما بين 80 و100 كيلومتر من جبال الهمالايا وبالتحديد عند قمة لانغتانغ، غاصت في الأرض متراً واحداً!
ولنا أن نتخيّل أن هذه السلسلة من الجبال العملاقة التي يزيد طولها عن الـ 2413 كم وعرضها عن الـ 250 كم، وارتفاعها عن 8848 م، وتشق ست دول (الصين والهند والنيبال وباكستان وبوتان وأفغانستان) والمغذية لثلاثة أنهر هي من أكبر أنهار العالم ويعيش على مياهها ثلاثة أرباع المليار إنسان تتزعزع من مكانها وتترنح، فما بال البشر إذاً؟
قد يسألني أحدٌ لماذا استحضرتَ هذا الآن؟ الحقيقة أنني وقبل عدة سنوات غامرت دون أن يكون لدي رغبة في المغامرة أو علم بها أصلاً، وذهبت إلى حيث تخوم جبال الهمالايا في المناطق الشمالية الغربية للنيبال على الضفة المقابلة لها من أوتاراخند الهندية. واليوم أتذكر أنني عبرتُ تلك المنطقة دون أن يكون لي أدنى علم بأنها منطقة فيضانات وانزلاقات مميتة، لكن مشيئة السماء قدَّرت أن أعبر تلك الأرض بسلام.
كانت أجزاء كبيرة من الأراضي التي اجتزناها قد سُوِّيَت بالأرض قبل شهرين من مجيئنا بسبب السيول والفيضانات. لكن كان الناس يجوبون الشوارع، وكأن شيئاً لم يكن، ولا يوجد أدنى خوف من أن يكون هؤلاء وجبة أخرى كمليونين من البشر كانت قد شرّدتهم الفيضانات، ولم يبق لهم من الحياة شيء. تنظر إلى ذلك وكأنك في مشهد درامي مخيف.
وعلى الرغم من أن النقطة التي وصلتُ إليها ارتفاعاً هي عند حدود الـ 6358 قدم فوق سطح البحر، لكن المنظر كان رهيباً من الأعلى. كان هناك منظار كبير يُريكَ شيئاً من قمم الهمالايا التي لا يمكن وصف هيبتها. فالنيبال والهند يحويان مناطق سياحية غاية في الروعة وندرة الآثار، وهما مقصد الملايين من السياح سنوياً.
هذه المغامرة غير المقصودة جعلتني أتأمل لفظ المغامرة وأعيد قراءتها من جديد. قلت: صحيح أن كثيراً من الناس يهابون المغامرة حفاظاً على حقوقهم كحقهم في الحياة وحقهم في الكرامة، لكن هناك نوعاً آخر من الأفعال التي يصلح أن يُطلق عليها مغامرة وعلى أصحابها مغامرين، وهي المتعلقة بسلوك بعض أهل الحكم تجاه بلدانهم.
فهناك من الحكام مَنْ يحرص كل الحرص على أن لا يغامر بلحمه الحي لكنه يُغامر بمصير البلد الذي يتسيّد عليه بكل ما فيه، وبالتحديد البشر قبل الحجر، بسياسات وقرارات خاطئة ومُهلِكة، يتم اتخاذها تحت عنوان هيبة الحكم والحاكم وإرغام الناس على قول نعم. وهي باعتقادي أسوأ أنواع المغامرات البشرية، لأنها تجري عن قصد مُبيَّت.
هذا الأمر يذكرني بسؤال عبدالملك بن عمر بن عبد العزيز لأبيه، كما ورد في العقد الفريد لابن عبد ربه: «يا أبَتِ، ما لكَ لا تحسم في الأمور، فوالله لا أبالي في الحق لو غَلَتْ بي وبك القدور. فقال له عمر: لا تَعْجَل يا بني، فإن الله تعالى ذمَّ الخمرَ في القرآن مرتين، وحرَّمها في الثالثة، وأنا أخاف أن أحمِلَ الناس على الحقّ جُملةً فيدفعون وتكون فتنة». فأين حكمتك يا بن عبد العزيز عن مغامِرِي ومغامَرَات هذا الزمان؟
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 4667 - الأربعاء 17 يونيو 2015م الموافق 29 شعبان 1436هـ
وتستمر المجازفة
صدام جازف في الكويت وإيران والقذافي جازف بدعم الانفصال في السودان وتستمر المجازفة والثمن تدفعه الشعوب