إنها الفوضى الخلاقة للشرق الأوسط الجديد الذي بشرنا به أسياد العالم، تماماً كما رسموا خرائط جغرافيته وتداولت مراكز أبحاثهم سيناريوهاته المتوقعة التي عقدوا حولها اللقاءات والمنتديات، وسربت المعلومات واختبرت ردود الأفعال في بيئة تسودها أنظمة دكتاتورية واستبدادية يعيث فيها العسس ويعشعش فيها حراس الدين بفتاواهم وتكفيرهم للمختلف إثنياً ومذهبياً وطائفياً وفكرياً، كما يطفو على سطحها الظلم واللاعدالة المقرونة بالفساد والتمييز والتهميش والفقر والحرمان من فرص التعليم والعمل والنظرة الدونية للمرأة. بيئةٌ مثاليةٌ كي تعمل فيها مباضعهم تشطيراً وتباشر فيها دوائرهم السياسية والعسكرية والاستخباراتية بتقسيم المقسّم وتفتيت المجزأ، وبسط الخرائط وخطط عمليات «الترانسفير» بأبعادها الجيو-سياسية والإثنية والمذهبية.
جاءت الضربة، وهي ليست الأولى، في رأس أقليات المسيحيين العراقية والسورية بهدف تهجيرهم من الشرق، وتدحرجت بعدها الكرة باتجاه الأيزيديين شمال العراق فأكراد سورية، لتحقيق غاية لا يحيد مضمونها عن سرقة ثروات المنطقة وإضعاف دولها وإفقارها وإفراغ المناطق من أهلها قسراً بإشاعة الخوف واستخدام صدمة الرعب ونصب المقاصل وتفعيل آلة الذبح بالسكاكين وسبي النساء وقتل الأطفال والشيوخ بصفتهم كفاراً، وإجبارهم على تغيير مللهم ودياناتهم.
وفي سياق إعادة تدوير المناطق المعتدى عليها وإعدادها، وتهيئة أهلها لتقبل العيش في إطار الاحتراب والفوضى في دويلات إثنية ومذهبية صغيرة مفككة ضعيفة، تحت عباءة الأديان وحماية الطوائف والعشائر والجماعات، دويلات فاشلة عاجزة عن حماية نفسها ومعرضة للابتزاز والسلب والنهب والخضوع تحت إمرة الأسياد... ليس مستغرباً أبداً أن تبرز بالتوازي الأيادي الخفية للعدو الصهيوني كي يساهم بدوره في مشروع التقسيم بصفته وتكوينه حارساً وشرطياً أميناً للولايات المتحدة وحلفائها في المنطقة.
وعلى الرغم من وضوح معالم مشروع التدمير والتجزئة الرئيسية، إلا أن تفاصيل سيناريوهات الاستراتيجية الأميركية وحلفائها الغربيين تبدو غامضة، أما المعلن عنها فهي غاية في التوحش والتعقيد بل والتضارب أحياناً، فما إن سقطت مدينة الرمادي العراقية وبعدها مدينة تدمر والبادية السورية في أيدي تنظيم الدولة الإسلامية «داعش» رغم إمكانيات التحالف الدولي وتجهيزاته لمحاربة التنظيم، وما إن انتهت الانتخابات التركية التي جاءت نتائجها في غير صالح النظام الأردوغاني، أحد المساهمين والداعمين للفوضى الخلاقة، حتى تسارع تصعيد العمليات العسكرية والاستخباراتية والإعلامية للحلفاء من أنظمة عربية وأجنبية، وذلك برفع مستويات التنسيق أو الدعم لـ»جبهة النصرة» التي يتم تسويقها بأنها فصيل معتدل غير إرهابي يحترم حقوق المواطنة والمساواة، فيتم مدّها بالمال والسلاح بحجة محاربة الإرهاب، فما الذي فعلته «جبهة النصرة»؟
في حقيقة الأمر لم تفعل شيئاً يذكر سوى محاصرة قرية «قلب لوزة» الدرزية بإدلب وارتكاب عناصرها مجزرة ذبح «عشرين» رجلاً بينهم مشايخ وشبان صغار من أهالي القرية، قتلوهم بدم بارد أمام منازلهم وفي شوارع البلدة. في أسباب المجزرة تحدثت بعض وسائل الإعلام عن رفض الأهالي تسليم أبنائهم لـ «جبهة النصرة» التي تصر على إدخالهم معسكرات تدريب لمدة شهرين، خصوصاً بعد إصدار أميرها قراراً بذلك، ومصادرة بعض منازلهم وأسلحتهم. كما قيل أيضاً محاولة بعض الأجانب منهم طلب الزواج من فتياتهم لإثبات اعتناقهم الإسلام، فيما أكّدت تقارير أخرى أن أميرهم المعين من بلدة حارم المجاورة، قد أبلغ الأهالي بأن «من يريد البقاء عليه الالتزام بالشريعة، وإلا فعليه الرحيل وسيتم مصادرة منزله».
بالتوازي مع حدث الجريمة وحالة القلق والبلبلة بين الأهالي، دعا دروز الأرض المحتلة «إسرائيل» للتدخل ووقف التهديد الذي يطال وجود الدروز في سورية، خصوصاً أن هناك قرابة 130 ألف درزي في «إسرائيل» يعيشون ويتمركزون في الجولان جنوبي سورية، ونسبة 80 % منهم يخدمون في الجيش ويقال أن بعضهم يتمتعون بمراكز فيه. وعليه لم تتوان «إسرائيل» عن إبراز «إنسانيتها»، فضخّت آلتها الإعلامية وبكثافة، كماً من رسائل تضخم التهديدات وتروّج لضرورة تدخلها لحماية الدروز السوريين، والدفاع عنهم من أية مجازر قد ينفّذها الإرهابيون. وهذا بالطبع ليس لسود عيونهم وإنما نظير تمرّدهم وفك ارتباطهم بالدولة السورية. كما يتكفل إعلامهم بإثارة الهلع في أوساط الدروز عبر عرض محادثة هاتفية متلفزة لأمير داعشي يتوعد فيها سكان السويداء بالاجتياح الوشيك، بل وباتجاه المنطقة ككل، فالهدف الإسرائيلي فاقع ويتعمد جر الدروز السوريين إلى أتون الصراع الإقليمي، ورفع حدة الصراع المذهبي للتعجيل بتقسيم المنطقة وفرض الوصاية الأجنبية عليها.
وثمة ما كشف عنه موقع «واللا» الصهيوني بشأن مبادرة إسرئيلية بإقامة منطقة خاصة في الأراضي السورية، بالقرب من الحدود بهدف تجميع اللاجئين الدروز لتلقّي المساعدات الإنسانية، وهذا يعزّز ما تردد عن نية تهجير قسم من أهالي جبل العرب ونقلهم إلى الجولان المحتل، لتشكيل حزام أمني على الحدود السورية مع شمال فلسطين المحتلة، خصوصاً وأن هناك اتصالات يجريها العدو مع بعض دول العالم والأمم المتحدة والصليب الأحمر بشأن إقامة هذه المنطقة.
عودة إلى المجزرة وتداعياتها، ماذا عن موقف المرجعيات السياسية والدينية الدرزية؟
تبعاً للتحليلات هناك انقسامات حادة عكستها أجواء اجتماع المجلس المذهبي الأخيرة، لاسيما وإنه منذ بدء الأزمة السورية دعا بعضهم دروز جبل السّماق للوقوف على الحياد، وأعادوا البحث في حلّ أزمتهم بترحيلهم إلى لبنان خصوصاً وأن أغلب دروز لبنان وجبل العرب هم أصلاً من إدلب وحلب. وهناك من بحث ترحيلهم إلى تركيا حيث أشارت تقارير بأن الأخيرة تبرّعت بمجمعات سكنية لإيوائهم، لكنّهم رفضوا وقرّروا البقاء في بيوتهم، وهم الآن يفضّلون النزوح إلى أهلهم في لبنان أو السويداء».
أما لجهة المؤسسة الدينية الدرزية، فقالت بأن «خروجهم إلى لبنان أو السويداء، قد يكون الحلّ الأمثل، مع أننا لا نفضل هذا الحلّ، وكنا نتمنى لو يبقون في بيوتهم».
في الاتجاه الآخر يطالب آخرون بتسليحهم لأنهم يجدون أن معركتهم –أي الدروز- تتطلب منهم التضامن والاتحاد مع المقاومة والجيش السوري، رافضين فكرة أن يكون الدروز حرس حدود لـ «إسرائيل».
والنتيجة يمكن اختصارها في تشخيص كاتب لبناني لواقع الطائفة الدرزية «بأنهم يتواجدون في دائرة انعزالية، ومن ينظر إليهم من خارج الجماعة، لا يراهم كمجموعة بشرية لها تاريخ موروث من العادات والتقاليد والأفكار والصفات، بل كمجموعة تائهة، تطلب الرعاية والحماية من خلال بناء علاقة بدولة إقليمية قوية وتقايض تلك الرعاية بأداء أي دور يبقيها على قيد الحياة، كما أن بعضهم يتصرفون وكأن غالبية حقيقية بين الدروز تعيش حالة «الطائفة القلقة»، بينما فيها أقلية ترفض الحياد، لكن فعاليتها لا تقلب المعادلة»، مضيفاً بأن «حالتهم ما هي إلا تعبير عن سقوط فكرة الدولة الوطنية حيث تفتقر أنظمة الحكم والقوى السياسية والفكرية القدرة لأن تكون ملاذاً يستقطب الأقليات، ومنها الحالة الدرزية الذين شبه حالهم بمن يقف عند باب دوار، وكل حراكهم يعيدهم إلى نقطة الصفر».
ترى على من سيأتي دور المجزرة المقبلة هذه المرة؟ ومن ثم «الترانسفير»؟
إقرأ أيضا لـ "منى عباس فضل"العدد 4666 - الثلثاء 16 يونيو 2015م الموافق 29 شعبان 1436هـ