«أطباء من أجل المملكة... عمل مستشفيات الإرسالية الأميركية في السعودية 1913 - 1955»، للطبيب بول أرميردينغ، وترجمة الأكاديمي عبدالله ناصر السبيعي، الصادر عن دارة الملك عبدالعزيز، يتناول في متْنه قصصاً وحكايات لأطباء أميركيين أسهموا إسهاماً كبيراً في تقديم الرعاية الصحية والطبية؛ سواء للأسرة الحاكمة السعودية بادئ الأمر؛ أو للمواطنين الذين كانوا يفتقدون إلى أبسط ملامح تلك الرعاية، مع بداية نشوء الدولة الحديثة.
42 عاماً، هي الفترة التي تمت فيها خدمة السعودية من قبل المستشفى؛ حيث عولج أكثر من 275 ألف مريض في عيادات مؤقتة؛ بينما عولج 17.500 من المرضى الآخرين في منازلهم، وأجرى ما معدله 3500 عملية جراحية كبرى، و 14 ألف عملية جراحية صغرى. «وإذا أخذنا أطباء ومستشفى الإرسالية، وموظفي المستشفى مجتمعين، وجدنا أنهم قدَّموا على الأقل 96 شهراً؛ أو ما يعادل ثماني سنوات كاملة من الخدمات الطبية داخل المملكة»؛ بحسب ما جاء في الكتاب.
الكتاب في تفصيلاته يذهب إلى رصد جانب من النشاط الصحي والطبي في تلك الفترة المتقدمة من تاريخ المنطقة عموماً، وتاريخ المملكة العربية السعودية خصوصاً، وتدعم تلك الكتابات بتفصيلاتها إحصاءات بعدد العمليات الجراحية الكبرى والصغرى، ونوعية الأمراض الشائعة، والانفتاح الكبير الذي أبداه الملك الراحل، مع وضع ضوابط في ما يتعلق بعدم التدخل في شئون اعتقاد وإيمان المواطنين؛ والأمر نفسه ينطبق على الطرف الآخر؛ باعتبار البعثات التي زارت المملكة بغرض تقديم العلاج تنتمي إلى مؤسسة تبشيرية.
من البصرة.. البحرين فالرياض
كثيرون يربطون اسم الإرسالية الأميركية، بمستشفاها وتاريخ الخدمات الطبية والصحية بمملكة البحرين، وذلك هو الشائع، حين نبحث عن البدايات؛ لكن لم تكن نقطة الانطلاق من البحرين، تمدُّداً إلى بعض دول الخليج؛ إذ كان التأسيس والوجود الأول من مدينة البصرة في العراق العام 1891، وذلك ما يشير إليه أرميردينغ «وعندما عملوا في البصرة (الرواد) وزاروا أجزاء أخرى من الخليج العربي، اتضحت الحاجة الملحة إلى خدمات طبية حديثة» فكان تواجدهم في عُمان والكويت، ومن ثم المستقر في البحرين.
مع بداية سيطرة الملك عبدالعزيز على أجزاء شاسعة من شبه الجزيرة العربية؛ كانت البلاد تفتقر إلى أدنى الخدمات الطبية، في الوقت الذي بدأت فيه الخدمات في البحرين بشكلها النموذجي - مقارنة بواقع الحال في الدول المجاورة - قبل عقدين تقريباً ببدء استدعاء الملك عبدالعزيز أول بعثة طبية طلبها من البحرين في العام 1913.
الكتاب يحوي كتابات بعض أولئك الأطباء الذين ساهموا في علاج آلاف المواطنين في المملكة العربية السعودية؛ وإن أخذ الكتاب طابع كتب الرحلات إلا أنه يكشف تاريخاً مهماً لتلك البلاد، قبل قيام مؤسساتها الحديثة بعقود، والاهتمام الذي أولاه الملك المؤسس من رعاية واهتمام في»ظل نقص حاد في الأطباء المتخصصين المهرة الذين يستطيعون الوفاء بالاحتياجات الصحية للمجتمع السعودي».
الزيارات صيغةُ تفاهم
يمكن فهم الكتاب ضمن توجهه ورصده لزيارات أولئك الأطباء والطاقم الطبي إلى السعودية على أنه صيغة من صيغ التفاهم والحوار في شكل من أشكاله. كما أن استدعاء تلك الكفاءات من مستشفى يقع في البحرين يبرز عمق الصلات والروابط التي تربط البلدين من جهة، ومحاولة لمجاراة عصر له شروطه ومتطلباته، دون أن يعني ذلك المساس بأي من الثوابت والقيم التي تحكم نظر وتوجه سكَّان المنطقة.
المستشفى الذي حصل على قطعة أرض منحها حاكم البحرين وقتها الشيخ عيسى بن علي آل خليفة لتشييد المستشفى في العام 1902 «أسهمت عائلة دويت ميسون من مدينة نيويورك بالمبالغ المالية لمشروع بنائه» ولهذا سمي المستشفى باسم مستشفى ميسون التذكاري بداية الأمر.
يورد أرميردينغ أن العثمانيين منعوا في السنوات المبكرة من القرن العشرين، موظفي الإرسالية الأميركية من القيام بنشاطات خارج محطاتهم الساحلية، لكن الأمر تغيَّر عندما تمكَّن الملك عبدالعزيز من بسط نفوذه على معظم أجزاء شبه الجزيرة العربية؛ إذ أخرج ما بقي من العثمانيين في شرق الجزيرة العربية في شهر أبريل/ نيسان 1913 «وعيَّن أمراء جدداً لفرض النظام في هذه المنطقة». وبدأ أمير الأحساء ابن جلوي، وأمراء مدن أخرى في دعوة أطباء الإرسالية من البحرين لتقديم خدمات لهم ولمواطنيهم.
مباشرة مرض السل
من بين أولئك الأطباء، كان الطبيب بول هاريسون؛ خريج كلية الطب في جامعة جونز هوبكنز بالولايات المتحدة الأميركية؛ وكانت القطيف أولى الوجهات في السعودية. كان ذلك في يونيو/ حزيران 1914. «فحص (بول) اليوم عدة مواطنين من القطيف، كان بعضهم مصاباً بالسل وربما لن يعيشوا طويلاً، وقدَّم لهم أفضل ما يستطيع من نصيحة؛ آملاً أن الراحة والتمرين المعتدل والغذاء الصحي ربما يساعدهم، وأهم من كل شيء آخر، نصحهم بالإقلاع عن التدخين، وأن يبتعدوا عن أدخنة حطب طهي طعامهم».
كانت رد فعل أهل القطيف مشجِّعة ومُرحِّبة بزيارة «بول» لهم. وكثير منهم يعلم بوجود مستشفى ميسون التذكاري في البحرين؛ لأن من بين زواره عدد من مواطني إمارات الخليج وقتها، وبعض كان يقطع الصحارى من نجد وصولاً إلى ميناء العقير كي يتلقى العلاج في البحرين.
زيارة «بول» التي استغرقت 6 أسابيع، لم يترك يوماً فيها دون أن يسجِّل انطباعاته ومشاهداته، وتقديم ملاحظاته على بعض الحالات. «العمل هنا مُرْضٍ... فحوالي نصف ما أنجز من حجم العمل يساوي الإقامة الطويلة في الصيف الماضي التي كانت في الواقع جيدة جداً... إنني آمل أن أذهب إلى عمق الجزيرة العربية قبل أن أخرج منها».
في الجانب الآخر، لم يخطط الطبيب ستانلي ميلريا، من الكويت حيث يعمل في مستشفى الإرسالية هناك في مطلع مايو/ أيار 1914، لأي يوم عمل، لكن مبعوثاً من أمير الكويت الشيخ مبارك الصباح، طلب منه الحضور، وعبْر عربة الخيل التي ستأخذه إلى مخيم ملك نجد، عبدالعزيز آل سعود، الذي يقع على بعد 33 كيلومتراً خارج مدينة الكويت. رجال الملك يعانون الحمّى. يطنب ميلريا في وصف الطريق وكذلك الخيمة الكبيرة (السرادق) الذي امتاز بالفخامة مقارنة بذلك الوقت، مع وجود سجاد يغطي أرضيتها. وصف الملك فيما وصف بالقول «بدا بتمام الصحة، وقد خمَّنت أن عمره حوالي خمسة وثلاثين عاماً، لقد ترك لديَّ انطباعاً هائلاً بكل تفاصيله وقسماته، فالوجه والمظهر ينبئ عن ذكاء وطاقة (...)».
الزيارة الأولى إلى الرياض
في يوليو/ تموز 1917، تلقى الطبيب بول هاريسون دعوة رسمية من الملك عبدالعزيز لزيارة عاصمة نجد وقتها (الرياض). عليه أن يأخذ موافقة القنصل البريطاني كجزء من الإجراءات. لم تمضِ 48 ساعة حتى صدرت الموافقة. الطريق البحري من هنا تمرُّ عبْر ميناء العقير على الساحل السعودي. ومن العقير إلى الهفوف ستستغرق المسافة يوماً. في الهفوف لابد من الراحة لعدة أيام، ليشقوا طريقهم إلى البر لبلوغ الرياض. ثلاث مراحل مرت بها وسائل المواصلات. في السنوات المبكرة من المرحلة الأولى تم استخدام الحمير، والجمال في المرحلة الثانية، وفي الثالثة كانت الشاحنات ثم السيارات.
زوجة «بول» عمدت إلى تسجيل ذكريات اجتماعه الأول مع الملك عبدالعزيز «كان ابن سعود واقفاً في غرفة صغيرة متواضعة. قابل (بول) بمصافحة حارة، وترحيب بسيط: السلام عليكم. رد (بول): وعليكم السلام. بينما أنت هنا في بيتي فهو بيتك. أضاف الشيخ (الملك) مشيراً إلى (بول) ليجلس بجواره. أحضر خادم القهوة وخلال رشف ابن سعود فنجانه شرح أنه قد طلب قدوم الطبيب ليس للاعتناء بصحته أو صحة عائلته؛ ولكن السبب احتياج شعبه. وأنه قد خصص منزلاً قريباً ليكون مستشفى. وكان يريد أن تتم معالجة شعبه دون كلفة مالية عليهم».
يبادر ابن سعود موجهاً كلامه إلى «بول» «يمكن أن تجد بعض البدو مُعادين، ولكن ذلك يجب ألاَّ يقلقك. أنت ضيف في منزلي، ولا يمكن أن يصيبك أي أذى. أنا أعرف أنك مسيحي ولكن الرجال الشرفاء أصدقاء على رغم اختلافهم في العقيدة. كُنْتُ قد قابلت طبيباً زميلاً لك في الكويت منذ سنوات مضت عندما عالج بعض رجالي، والكابتن شكسبير، والكابتن كوكس كانوا هنا وأنا أحترمهم».
زيارة العام 1919 إلى الرياض
في شتاء العام 1919، اجتاح العالم وباء الأنفلونزا. لم تمنع الصحراء العربية مترامية الأطراف بلوغه إلى هذا الجزء من العالم.
في ذلك العام تلقى الطبيب بول هاريسون دعوة ثانية لزيارة الرياض. هذه المرة جاء الطلب بإلحاح عاجل. حين وصل هاريسون إلى الرياض «كان السلطان حينها قد فقد ابنه البكْر تركي وزوجته جوهرة بنت مساعد بسبب الأنفلونزا». استطاع هاريسون أن يشفي الكثير من الحالات التي عرضت عليه. ربما تجاوز المهمة الرئيسية التي جاء من أجلها، حين التحق بمجموعة توزيع الطعام والتموين في مدينة الرياض.
وفي العام 1920 وصلت الدعوة الثالثة، إلا أن هاريسون لم يكن موجوداً، ليتولى المهمة طبيب جديد في مستشفى ميسون التذكاري، وهو لويس بول ديم، الذي أصبح زائراً مُعتاداً. أنجز ديم الكثير من العمل في تلك السنة، بمساعدة السلطان، بإقامة عيادات طبية في منزل لأيام عدة. وفي العام 1923 أنهى الفريق الطبي عمله في الرياض «كان مساعدوه يستعدون للمغادرة. كان يحتاج إلى يوم راحة كامل قبل السفر، منتهزاً إياها لإتمام كتابة يومياته وتحديثها.
كان ضيفاً في قصر السلطان عبدالعزيز آل سعود خلال الخمسة أسابيع الماضية، وكما وعد السلطان؛ فسيواصل الفريق الطبي طريقه إلى عمق الجزيرة العربية غداً».
الدعوات لا تتوقف. الانتقال بطبيعة المهمة أمر محتمل في أية لحظة، مع وسائل المواصلات البدائية، والطرق المحفوفة برمال الصحراء.
يشير لويس بول ديم في يومياته إلى أنه دُعي بعد عودته إلى البحرين، إلى زيارة نجد من قبل السلطان لمعالجة والده المسن. «غادرنا البحرين في 6 نوفمبر/ تشرين الثاني مع أربعة من مساعدي المستشفى واثنين وثلاثين صندوقاً من الأدوية والمؤن».
غادرت المجموعة الطبية الأحساء في وقت مبكر من يوم صباح يوم الاثنين 12 نوفمبر. «في اليوم التالي بعد الظهر، تقابلنا مع مبعوثين خاصين من قبل السلطان على جملين سريعين، ومعهما رسالة لي، تطلب مني السير بكل سرعة ممكنة إلى السلطان الذي كان مريضاً بصورة خطرة، ويعاني من بعض التورم في الوجه، ولحسن الحظ كنت ممتطياً ذلولاً، فبعد فتح صناديق قليلة، وأخذ تموينات قليلة نحتاج إليها (...)».
وصف الطريق. الأوقات التي تم فيها التوقف للاستراحة أو تناول الوجبات. بعض المسير يستغرق 15 ساعة متواصلة. وكان لهم بلوغ الرياض في يوم الجمعة بعد الظهر «أدخلتُ حالاً لأجد نفسي أمام السلطان مباشرة، فوجدته يعاني من التهاب نسيجي في الوجه؛ إذ كان وجهه متورماً جداً وعينه، وكانت شفتاه منتفختين إلى حد تجعله يتكلم بصعوبة؛ ما جعلني أميزه بصعوبة، فقد كان مختلفاً عن نشاط عبدالعزيز آل سعود وحماسه المعتاد».
يصف ديم إجراء العملية التي تمت «كان من الضروري فتح الورم في ثلاثة مواضع». أعقب ذلك وتحديداً في يوم الخميس التالي، حفل أقامه السلطان عبدالعزيز «أمَّه جميع سكان المدينة ومئات من البدو، وأستطيع التخمين أن حوالي 5000 شخص قد هُرعوا إلى قاعة الاستقبال في الفترة الصباحية».
الحالات بلغة الأرقام
لم تنتهِ المهمة بإجراء العملية، وبفعل الملاحظات واليوميات التي حرص على تسجيلها، يتذكَّر لويس ديم الحالات التي باشرها وبلغة الأرقام في زيارة الرياض في العام 1923؛ إذ وخلال سبعة وعشرين يوماً من العمل الفعلي «قمنا بمعالجة 3374 حالة، كان من بينها 1306 حالات جديدة، و 1978 حالة متابعة، و 90 زيارة علاج منزلية، وأجرينا 36 عملية جراحية كبرى، و 101 من العمليات الجراحية الصغرى، وأعطينا 15 حقنة وريدية».
في الجزء الثاني سيتم تناول زيارات تعاقبت، ووصف للصعوبات التي واجهت الفرق الطبية في الطريق إلى وجهتهم النهائية في مدن مختلفة من شبه الجزيرة العربية. الصحراء كانت على رأس تلك المعوقات والصعوبات.
يشار إلى أن بول أرميردينغ، شغل منذ العام 1987 منصب الرئيس التنفيذي لمستشفى الإرسالية الأميركية في البحرين، إضافة إلى عمله طبيباً جرَّاحاً فيه.
العدد 4666 - الثلثاء 16 يونيو 2015م الموافق 29 شعبان 1436هـ