عندما أصدر الفنان الأديب عبدالكريم العريض في العام 1984 كتابا أسماه : «أضواء على الحركة التشكيلية في البحرين»، عمد إلى إلقاء الضوء على كوكبة من 12 فنانا بحرينيّا كانوا بمثابة الرواد الذين شكلوا الأساس الأول لانطلاق الحركة في البلاد، لكن ذلك الكتاب، أدى الى أن تنشط مجموعة من الفنانين الجدد المنضمين الى الساحة الفنية حديثا لتبدأ مرحلة من «الصراع القوي» كان واضحا من خلال المقالات والكتابات الصحافية، بيد أن هذا الصراع تحول بعد ذلك الى حالة صحية من المنافسة بين مدارس فنية مختلفة.
ضيفنا الكريم هو من مواليد المنامة في العام 1934، وأحد رواد الحركة التشكيلية في البحرين وشارك في الكثير من المعارض والفعاليات الفنية والخارجية في قطر، لبنان، القاهرة، الصين، الأردن، المغرب، دمشق، السعودية، الجزائر، سنغافورة وله مؤلفات في الفن والتراث الشعبي، وحصل في العام 1984 على جائزة الدَّولة التشجيعية، وفي العام 1999 حصل على جائزة الدَّانة بمعرض دولة الكويت.
لم تكن مراحل تطور الحركة التشكيلية في البلاد هينة، لكن، في هذا الحوار مع الفنان التشكيلي المخضرم عبدالكريم العريض، سنعود الى حقبة الخمسينات، وليبدأ من هناك الحوار:
البدايات: ندوة الفن والأدب
لعلنا من خلال هذه الجلسة الجميلة في رحاب جمعية الفن المعاصر، نطل على نافذة من العطاء في الجوانب الفنية والإبداعية لتجربتكم الحافلة، وبودِّنا أن نبدأ بتأريخ الحركة التشكيلية في البحرين؟
- الحركة التشكيلية بدأت صعبة، ثم لابد من القول إن السير فيها صعب أيضا، ففي مرحلة الخمسينات من القرن الماضي بدأت ندوة الفن والأدب، وكانت هذه الندوة للطلبة بقصد استيعاب الفن كفن وليس كما كنا نراه مجرد رسم، وبعد أن بدأنا تجاوزنا مرحلة البداية، انطلقنا ومارسنا العمل وبدأنا في الحركة من خلال مزج مختلف الآراء والأفكار التي أخضعت لعملية «غربلة»، لكنني كنت مشدودا لفكرة إنشاء جمعية، وفعلا، تم في العام 1956 تأسيس أسرة هواة الفن، وحتى لا أنسى، قبل هذه الفترة، وفي العام 1952، تقدمنا بطلب الى مستشار حكومة البحرين لإصدار مجلة أو صحيفة مدرسية، وكنا طلبة في سن 17 و18 سنة... ذات يوم، وكنت وقتها أعيش في منزل عمي المرحوم الحاج منصور العريض بفريق الحطب بالمنامة، شاهدت موظفا يحمل حقيبة ولديه رسالة موجهة الى أحمد يوسف وهو صديق لي يدعم إصدار مطبوعة مدرسية، وتسلمت الرسالة لأجد فيها ردّا يقول إن حكومة البحرين تأسف لعدم السماح للطلبة إصدار صحف أو مجلات.
وبعد تسلم الرسالة، تشاورت مع صديقي أحمد الذي كان يعيش في فريق الحطب بعد أن أطلعته على الموضوع، لكن الغريب في الأمر، أنه في اليوم التالي استدعاني مدير المدرسة الذي لا يحضرني اسمه، وقال لي: «لقد كتبتم الى مدير المعارف رسالة لإصدار مجلة مدرسية، لذلك ستكون أنت وأحمد مسئولين عن أسرة التحرير».
وبدأنا العمل مباشرة وأصدرنا عددا واحدا فقط من مجلة «المعرفة» وأتذكر أن ذلك العدد حوى قصيدة كتبتها بعنوان: «ربيع الحياة»، وفي الوقت ذاته، مارسنا عملنا في الرسم، حتى أن الحكومة - حين كانت تنظم معرضها الزِّراعي السنوي - كانت تسمح لنا تخصيص جناح نعرض فيه أعمالنا، وعلى هذا المنوال مضينا في العمل.
غاليري «حكلو»... ابن الأرض
بعد ذلك تحولت هذه الجمعية الى ثلاث شعب، موسيقى وتمثيل ورسم، وبدأنا في تشكيل جمعية أخرى تكون متخصصة في الفن التشكيلي، لكن في العام 1961 أنشأت أول محل غاليري حمل اسم (حكلو)، ولهذا الاسم معنى، ففي الحضارة الآكادية تتكون هذه الكلمة من شقين «هيك» وتعني الهيكل، و»لو» وتعني الولد، أي ابن أو ولد الهيكل، ومعناها الرمزي هو «ابن الأرض» لأن الأرض في الحضارة الآكادية هي الهيكل والمعبد، وفي العام 1969 اقتنى سمو رئيس الوزراء الشيخ خليفة بن سلمان آل خليفة لوحة تمثل الفكرة وعرضتها في المعرض.
في تلك الفترة كنت أعمل في سلك التَّدريس، لكنني اتجهت الى تسويق الفن، وفكرت في ترك التدريس حتى أن المرحوم حميد العريض اعترض على الفكرة، لكنني حصلت على مساعدات كثيرة، وخصوصا من بعض الأجانب، وكنت أرسم لهم بطاقات أعياد الميلاد وتباع البطاقة بمئة فلس، بعد ذلك، وجهت الدعوة الى مجموعة من الفنانين ليشاركوا معي ويعرضوا أعمالهم في «متحفة حكلو»، التي كانت أول غاليري في البحرين، وقلت هذا الكلام في مقابلة أصدرتها «نشرة بابكو» في معرض اقيم بمساعدة اليس فييرو، وهي زوجة خبير اقتصادي ساهم في وضع النظام الاقتصادي للبلاد، وعمل مع المرحوم محمود العلوي الذي كان مسئولا عن خزينة الدولة، وكانت فييرو تعمل في حقل التعليم في فترة الخمسينات وتعيش في شقة بمبنى بنك البحرين الوطني القديم بالمنامة الذي كان وقتها ملاصقا للبحر.
امرأة لها بصمات
هذه المرأة، ساهمت معنا في تنظيم أول معرض جماعي في البحرين بمشاركة عدد من الفنانين أذكر منهم راشد العريفي، حسين السندي، ناصر اليوسف، عبدالكريم البوسطة، وكذلك انضمت إلى المعرض مجموعة من الفنانين الذين لم يكونوا من أسرة هواة الفن كالفنان شوقي الزياني، وبلغ عدد الفنانين المشاركين 14 فنانا، وفي العام 1972 نظمت الحكومة معرضا لفناني البحرين من قبل وزارة العمل والشئون الاجتماعية وقتذاك، وفي تلك الفترة أسسنا الجمعية التي تبلغ من العمر اليوم 37 عاما، وعرضنا أعمالنا في المعهد الثقافي البريطاني وفي عدد من الشركات الكبرى، وشاركنا في معرض فني دولي في فرنسا دعانا إليه «جيمس» ابن مستشار حكومة البحرين تشارلز بلغريف.
يستدرك ليقول: «جمعني لقاء ذات مرة في منزل فييرو، وطرحت عليه سؤالا: ماذا نسمي الجمعية، فقال أسموها جمعية الفن المعاصر، وكان الرجل فنانا أيضا لكنه مهتم بجانب آخر من الفنون، وكان لديه صندوق يمثل مجموعة من المدن البريطانية، ويعمل بالأزرار وفيه سيارات صغيرة يحركها بواسطة الأزرار لتتجه الى أي مدينة من المدن البريطانية الموجودة على خريطة الصندوق».
ذات يوم، كنت عاكفا على إعداد بعض الإطارات (البراويز) بطلب من السيدة فييرو، وبشكل مباغت، قرأت في الصحف خبرا مفاده وفاة سيدة قيل عنها إنها زوجة مستشار في الحكومة، ورأيت صورتها لكنني ذهبت الى منزلها للتأكد من صحة الخبر، فطرقت الباب وخرج لي زوجها باكيا فعانقته وعزيته... وبعد ثلاثة أيام من وفاتها، تسلم زوجها رسالة من المرحوم محمود العلوي تعزيه الحكومة فيها وتعبر عن أسفها لوفاة زوجته (التي خدمت الفنانين في البحرين وكانت وراء تأسيس جمعية الفن المعاصر»، واستمر زوجها يحضر معنا ويجتمع مع أعضاء الجمعية لتنظيم أمورها.
وتوالت الأيام ونحن نقيم المعارض سنويّا، كما ننظم مع الدولة معرضا، وانضم الى الجمعية عدد جديد من الفنانين الذين أنهوا دراستهم الجامعية ويشاركون مع الفنانين الرواد، وأتذكر أنه في فترة الستينات والسبعينات، كان الفنانون مغرمين باللوحات الطبيعية، فرسمنا مجموعة من اللوحات لسواحل البحرين من المنامة الى الدراز قبل تعرضها للدفان، وكنا نمشي على الأقدام نقطع تلك المسافة التي كانت عبارة عن قطع من الجمال الطبيعي، وكذلك رسمت لوحة لقرية بني جمرة وعرضتها في معرض أقيم بدولة الكويت، كما رسمت مع الفنان المرحوم ناصر اليوسف لوحة لقرية الدراز... رسمت الكثير من اللوحات من المحرق الى البلاد القديم، ومناطق مختلفة من البحرين وخصوصا العاصمة (المنامة) والسوق والأزقة القديمة، وكان جيمس ابن المستشار بلغريف يحب الرسم ورسم لوحة لحالة السلطة في الحد على لوحة طولية... وبمناسبة الحديث عن جيمس الذي كان يسمي نفسه اسما آخر هو حمد لأنه ولد في عهد المغفور له الشيخ حمد، سألته عن سبب خروجه من الحكومة يومذاك، فقال لي إن هناك قوى أكبر منه، وسرد عبارة أخرى :»إن الذي يؤسس يبعدونه» وشعرت أنه يتألم لأمور كثيرة تجري في البلد.
لي ذكريات مع جيمس، وكان يحب مدينة عيسى حيث كان يقول إنهم يذهبون اليها في الصيف، وكان لديه كلبان سلوقيان، وأنا أعرفه منذ كان يسكن في فريق الحطب في المنطقة المعروفة باسم «بيوت الباخشة» التي كانت شبيهة بحديقة غناء جميلة تآمرت عليها البلدية لتدمرها في ذلك الزمان.
ومع اهتمامي بالفن، توجهت الى الأدب والتأليف، فألفت كتابا من تراث البحرين الشعبي، ورواية عاطفية عنوانها «ويذهب الزبد»، وأضواء على الحركة التشكيلية، بالإضافة الى مؤلفات في الفن والتراث الشعبي.
معارض «حافلة» بالمبيعات
في مرحلة التأسيس، هل كان هناك تقدير للحركة الفنية يختلف عما هو عليه الحال اليوم؟
- في أول مقابلة أجريت معي على هامش أول معرض أقيم في العام 1971 سألني أحد الصحافيين عن المستقبل، أي مستقبل الفن، فقلت إن العلامة الحلي رحمه الله قال قبل 600 سنة إن الرسوم لا تغني ولا تنفع، وزدت القول... إنني استشرف للموضوع وأقول ستكون هناك سوق لهذا العمل، ووظيفة لا يمكن الغنى عنها، وعلى صعيد متصل بهذا الكلام، سافرت الى إيران في العام 1956 وتدربت أنا والمرحوم حسين السندي في أصفهان، وبعد هذه التجربة نظمت معرضا لي في العام 1961، لكن الوضع تغير فيما بعد، ففي فترة السبعينات، شهد العمل نشاطا أكبر، فقد نظمت الفنانة شهرزاد يتيم معرضا في العام 1971، كما أسس الفنان الخان مكانا لبيع الأعمال الفنية، وهذا خلاف المعارض التي كان الفنانون يبيعون فيها أعمالهم.
وأود القول إن الوضع آنذاك أفضل من الآن بكثير، وعلى سبيل المثال، نظمنا في العام 1982 معرضا في فندق الخليج ووصل الريع الى 25 ألف دينار تم توزيعها على 20 فنانا، وفي تلك الفترة، كانت المعارض حافلة بالمبيعات.
انقسام الحركة التشكيلية
ولماذا انخفض النشاط والبيع الآن؟
- الأزمة التي أصبنا بها هي انقسام الحركة التشكيلية، والاصطدام الثقافي بين القادمين من الخارج وبين الفنانين الرُّواد، وقد أصدرنا في العام 1984 كتابا بمثابة دراسة عن الحياة الشخصية لكل فنان، وضمنته سيرا لاثني عشر فنانا ممن واكبوا الحركة التشكيلية في البحرين من بدايتها، من دون غيرهم الذين لم يواكبوا البدايات، ووجدت فيهم العطاء وأنهم يرفدون الحركة، فجمعتهم في كتاب وبعد ذلك ترجمنا هذا الكتاب الذي أحدث حركة غير معقولة بالنسبة إلى الفنانين القادمين، فجمعوا مناصريهم وحدث دور من الصراع على الصحافة والكتابات والكتابات المضادة، نتج عنه تشكيل جمعية أخرى.
هل تعتقد أن هذا الصراع أدى الى ضمور؟
- لا لم يؤدِّ إلى ضمور، بل نتجت عنه مدارس فنية وابتداع أفكار تخدم العمل، لكن الضمور كان بسبب المتاحف الخاصة التي تستقطب ذوي المال.
المنامة.. حيث الخير كله
بالمناسبة، كيف تنظرون الى الجمعيات الشعبية التي أصبحت تقدم نماذج من العمل الفني مثل جمعية الإسكافي وجمعية المرسم الحسيني؟
- هذا النشاط متواصل منذ سنين طويلة، فبالنسبة إلى من لم يواكبوا الحركة الفنية، اعتبروا هذا العمل جديدا، وأقول إنه في العام 1953 كانت لدينا جمعية تحمل اسم «الجمعية الخيرية الجعفرية»... كانت جمعية طلابية، تعمل في الرسم ثم بعد ذلك تحولت الى العمل المسرحي، وفي العام ذاته، حدثت الفتنة الشهيرة، حينما كنا نرسم لوحات على أحد الجدران في المنامة أيام عاشوراء، ونقدم المشروبات للمعزين، وحدث أن أثار أحد الأشخاص المشاكل في ذلك الشارع تحولت الى صدام وفوضى، وهي الفتنة التي ودأتها هيئة الاتحاد الوطني.
حين نأتي الى المنامة وذكرياتك فيها، كيف تراها اليوم ونحن في العام 2008 وكيف تشعر؟
- سأصور لك شعوري من خلال هذه القصة، فقد كان هناك صائغ هندي استأجر محلا في بيتنا القديم بالمنامة، وكان ذلك الصائغ يقبِّل قفل المحل حين ينتهي من عمله، وبعد سنين، وجدت أنه افتتح محلا آخر، وعندما سألته عن سبب تقبيل القفل، كان يقول... جئت الى المحل الأول وليس لدي سوى ربع كيلوغرام من الذهب، والآن لدي 20 كيلوغراما، وتعيش أسرته حياة طيبة في المنامة في شقة واسعة وعيالهم يدرسون في المدارس الخاصة، حتى أن احدى بناته درست في مدرسة القلب المقدس ثم سافرت للدراسة في بريطانيا...
النعمة التي لدى أولئك ليست موجودة لدى الكثير من المواطنين، فالمنامة مصدر الخير، أما بالنسبة إلى ما يحدث اليوم، فليس بسبب الهجرة من المنامة ولا لعدم الشعور بأهميتها وإهمال الدولة لها، فالمنامة ضيقة من ناحية المساحة، وأهلها كانوا يعيشون في منازل ضيقة، كما أنها شهدت هجرتين: قادمة وخارجة... فالقادمة كانت من قبل أهالي القرية الذين كانوا يأتون للعيش في المنامة، والهجرة الخارجة فهي من أهل المنامة الذين توجهوا الى المناطق السكنية الجديدة
العدد 2239 - الأربعاء 22 أكتوبر 2008م الموافق 21 شوال 1429هـ