ربما تمضي وتيرة التطورات المحلية في العراق بخطوط متوازنة، بعضها من صنع الحكومة الجديدة التي تحاول تأكيد ثلاثة محاور أساسية في سياق عملها، وهي محور الأمن، إذ أصدرت تعليمات كثيرة تتعلق بإجراءات محددة، منها على سبيل المثال تقسيم العاصمة بغداد إلى قطاعات أمنية لمنع تدفق الارهابيين من خارج هذه القطاعات، وتشديد الرقابة على مداخل العاصمة، ومنها أيضا محور الخدمات، إذ تتخذ الحكومة جملة من الاجراءات، منها على سبيل المثال التخفيف من كاهل الطبقات الفقيرة فيما يتعلق بمصروفات الماء والكهرباء والمحروقات، التي يعاني من شحتها معظم العراقيين، إذ تقول الحكومة إنها مغطاة بدعم مالي لا يتماشى مع الواقع الحالي، وعليه فإن هذه الخدمات ستباع للعوائل الميسورة بأسعار البيع العالمية، بينما ستحافظ على أسعارها الراهنة بالنسبة إلى عموم العوائل الفقيرة، ومنها أيضا محور الاقتصاد الذي يتضمن التخفيف من البطالة ومعالجة الترهل الاقتصادي عموما لتطبيق شروط نادي باريس الذي اتخذ قرارا بإلغاء التعويضات المالية بعد أن يتأكد من تنفيذ الحكومة الجديدة "المنتخبة" لهذه الشروط.
وهناك المزيد من التوجهات التي جاءت على لسان المتحدث باسم رئيس الوزراء ليث كبة في مؤتمره الصحافي الأخير، إذ أشار إلى نية الحكومة إعطاء الأولوية في التخصيصات المالية و"الحوافز" إلى المحافظات التي تنتخب إداراتها بصورة مباشرة، فضلا عن التمدد نحو المحافظات في تنفيذ المحاور الثلاثة بعد البدء فيها في العاصمة بغداد، وتدل هذه الاجراءات على أن حكومة الجعفري تحاول سباق الزمن لإثبات كفاءتها من خلال الأشهر القليلة المقبلة قبل إجراء الانتخابات العامة الجديدة التي من شأنها أن تكون المحطة الرئيسية لمراجعة دور الحكومة، وأيضا الاستحقاقات الانتخابية للقوائم التي شكلت هذه الحكومة.
ويبدو أن المهمات التي تقف أمام حكومة الجعفري ليست قليلة ومضمونة الانجاز، فالوضع الذي تتطلع إليه هذه الحكومة مازال بعيدا عن متناول اليد، وان الاكتفاء حاليا بخطة "تنظيف بغداد" من الارهابيين وإعادة الأمن إليها تحتاج إلى المزيد من الوقت والإمكانات غير المتوافرة حاليا لدى الحكومة، وهذا الأمر ينطبق على المحافظات الأخرى، فعزل بغداد عن بقية المحافظات والتركيز عليها في الجانب الأمني لا يمكن بحسب بعض الخبراء العسكريين أن يحقق نتائج مثالية أو ملموسة ما دام الأمر يرتبط بالقضية العامة، فمن الناحية اللوجستية فإن بغداد متداخلة مع حزمة واسعة جدا من القرى والأرياف والبلدان الصغيرة التي لا تستطيع أية قوة عسكرية أو أمنية تقسيمها إلى أجزاء أو محاور، إلا فيما تتعلق بالطرق العامة التي تسير عليها المركبات، وهذه الطرق محدودة ومعروفة، وهي أصلا كانت خلال السنتين الأخيرتين موضع مراقبة مشددة من قبل الطيران الأميركي وأيضا القوات الأميركية البرية، ولم تستطع هذه القوات مع ما لديها من إمكانات تقنية من منع تسرب المسلحين إلى معظم مناطق بغداد.
إضافة إلى ذلك، فإن خبراء عراقيين التقت بهم "الوسط" في لندن، قالوا في هذه الخصوص، إن الجماعات المسلحة طورت في الآونة الأخيرة أساليبها وخططها القتالية التي اعترفت القوات الأميركية بأنها أساليب متقدمة للغاية، لأنها تعتمد على تكتيكات "حرب العصابات" المنظمة، إذ تقوم هذه الجماعات بضرب المواقع المستهدفة والانسحاب السريع إلى مواقعها قبل وصول الامدادات العسكرية المضادة لها.
وأشاروا أيضا إلى أن بغداد محاصرة منذ أمد طويل بمواقع المسلحين الذين يقومون في آن واحد ووقت محدد بتنفيذ عملياتهم المسلحة في أكثر من موقع في دائرة محيط بغداد وفي قلب العاصمة بعد أن يتسللو إليها، لذلك فإن الضربات التي يقومون بها تتم في ساعات واحدة على طول محيط حلقة الحصار.
أما على صعيد المحافظات، فقد أشار قادمون من بغداد إلى أن الوضع أكثر تعقيدا بالنسبة إلى الحكومة الجديدة، فعمليات المسلحين تجرى في وضح النهار، وربما أمام أعين ومسامع الناس العاديين، ولا أحد يستطيع الوقوف ضدها، وليس هناك من يتجرأ على تقديم معلومات بشأنهم لأنه يعرف مسبقا بأن مصدر المعلومات سيكتشف بعد وقت قليل بسبب وجود متعاونين مع المسلحين داخل المؤسسات الأمنية والعسكرية، لذلك لا يستطيع أي شخص المجازفة بحياته.
تحاول الحكومة الجديدة أن تؤكد انحسار مستوى العمليات المسلحة أخيرا، بعد أن تعرضت بعض مواقع المسلحين إلى ضربات متتالية في بغداد والقائم والحلة وحديثة والموصل وكركوك، ومن خلال مراجعة ساحة العمليات العسكرية يبدو أن الغالبية القصوى من محافظات ومدن العراق تتعرض إلى مثل هذه العمليات، أما المدن التي خفت فيها مثل هذه العمليات فهي لا تتعدى اثنتين أو ثلاث مدن، وهذا دليل على أن الوضع الأمني مازال يشكل العقبة الرئيسية أمام الحكومة الحالية، وهو إلى حد الآن يستحوذ على الاهتمام الأكبر من جهة الحكومة، ويتطلب معالجته المزيد من الوقت غير المتاح أمام هذه الحكومة.
فالشارع العراقي بدأ حقا يعاني اختناقات رهيبة، وأصبح من الصعب جدا أمام أية حكومة كسب ثقة هذا الشارع، فالتعليقات الحادة التي يتداولها العراقيون عن حكومتهم أصبحت تعكس حالا من الاحباط الشديد، فالوضع الأمني مازال يقلق معظم العوائل العراقية، ومستوى الخدمات تراجع عن السابق بشكل ملموس، وبدأت تتصاعد موجة الاحتجاجات الشعبية ضد الاحتلال الأميركي، فهناك قطاعات واسعة كانت إلى وقت قريب تغض النظر عن هذه القضية لاعتبارات الأمن والاستقرار والنزاعات القومية والطائفية التي من الممكن أن تندلع فيما إذا سحب الأميركان قواتهم من العراق، ولكن أمام تصرفات القوات المحتلة وتزايد التردي الأمني وبقاء الأحوال على حالها مع مضي هذه السنوات دفع بهذه القطاعات إلى رفع صوتها المعارض للاحتلال، وبدأت شرائح المجتمع العراقي تحمل المحتلين كل ما أصاب العراق والعراقيين من كوارث وأعباء ومصائب.
هنالك رأي عام يتشكل حاليا يرفض بقاء الاحتلال حتى في مثل هذه الظروف، فالكثير من العراقيين أصبحوا يؤكدون أن عملية التخويف من حرب عرقية أو طائفية هي من صنع المحتلين، فالعراقيون لم يكونوا في يوم ما مقسمين على أساس طائفي أو عرقي، ولا توجد مثل هذه المشكلة داخل بنية العائلة العراقية المركبة من السني والشيعي والكردي والعربي والتركماني، فالعشائر العراقية موحدة في مذاهب مختلفة، والتزاوج بين الطوائف أمر عادي للغاية، لذلك فإن إثارة هذه القضايا إنما لها أبعاد سياسية بحتة.
العراقيون يرفضون العصابات المسلحة "الإرهابية"، وهم قادرون على حسم أمورها فيما إذا حلت المشكلات سياسيا مع الأطراف العراقية جميعا، فهناك اعتراف شعبي وحكومي في بعض الأحيان بالمقاومة الشرعية للاحتلال، من هنا فإن معالجة الأوضاع جميعها ينبغي أن تتم من خلال إشراك جميع الأطراف في العملية السياسية، مع التأكيد على الثوابت الوطنية وفي مقدمتها انسحاب القوات المحتلة.
هذا هو الطريق التي يعتقد العراقيون أنها الطريق الوحيد التي تؤمن الأمن والاستقرار وتعيد العراق إلى وضعه الطبيعي
العدد 999 - الثلثاء 31 مايو 2005م الموافق 22 ربيع الثاني 1426هـ