انفتح باب الاصلاح والتغيير في المنطقة بأسرها، وهو باب لم يعد في مقدور أحد اغلاقه من الآن فصاعدا، لا قوى الداخل تقبل، ولا قوى للخارج.
وتأمل ساحات التغيير على سبيل المثال، باتساع الخريطة العربية من مغربها الى مشرقها، وهي تموج بهدير الاصلاح والتغيير ينطلق من كل اتجاه، حتى لو حاولت الحكومات عرقلته أو تعطيله، انظر الى ما يجري على سبيل المثال في المغرب والجزائر، غربا وفي العراق والبحرين شرقا، فضلا عن لبنان وفلسطين في المنتصف.
لكن ما يجري في مصر واسطة العقد ورمانة الميزان، يشكل الأهم والأوسع والأكثر تأثيرا ليس فقط بالمعايير التقليدية المتعارف عليها، من حيث دور مصر المحوري وتراثها التاريخي وتأثيرها الاقليمي، ولكن ايضا من حيث انتاجها للقوى الجديدة التي تقود الآن بحيوية ظاهرة قاطرة التغيير ودعوات الاصلاح الديمقراطي الوطني الحقيقي.
وفي مقابلها مازالت القوى القديمة تدافع عن آخر مواقفها وتخوض أعنف معاركها معارك البقاء، في الربع ساعة الأخيرة، بعضها يحاول ان يتأقلم مع التغيير ويتكيف مع دعوات الاصلاح، ربما بمنطق برجماتي "انتهازي"، وبعضها الآخر مازال مغيبا وسط ضباب الوهم متمسكا بمواقعه الثابتة داخل خنادق مغلقة لا يدخلها ماء ولا هواء!
وفي هذا الصراع التنافسي بين القوى الجديدة وتلك القديمة، يضع التاريخ ومنطق التطور دائما بصمته على التطورات والحوادث، وبحكم هذا المنطق التاريخي ينتصر الجديد على القديم ويخلفه، بعد عراك قد يطول أو يقصر، لكن حكمة الشعوب الناضجة هي وحدها القادرة على إدارة هذا العراك أو الصراع أو التنافس فتحقق الانتقال السلمي وتصنع التطور الطبيعي بديلا للتغيير بالانقلابات العسكرية أو الفاشية أو الارهابية الدموية.
وبقدر ما شهد تاريخ مصر، نماذج كثيرة من حالتي التغيير السلمي والانقلاب العنيف بقدر ما هي مدعوة اليوم لدخول اختبار جديد من التحول والتغيير والاصلاح القائم على حوار مجتمعي منفتح من دون قيود أو شروط، تتلاقى فيه الاطراف عند "نقاط وسط" تتخلى فيه الغالبية الميكانيكية عن تعسفها ودكتاتوريتها المبالغ فيها، وتتخلى فيه الاقلية عن نزوعها الدائم للرفض والانسحاب، أو اللجوء للعنف!
مرة أخرى تبرز هنا حكمة إدارة التغيير في المجتمعات الناضجة ذات التجارب العميقة، حكمة تحتاج الى مخزون من العقل والرشد معا.
ولعل المتابع المدقق للحراك السياسي العام في مصر هذه الأيام، يلحظ ظواهر عدة، اولها هذا العنفوان والحيوية والجرأة في طرح الافكار، وثانيها تراجع تأثير القوى السياسية التقليدية، وخصوصا الاحزاب التي صارت مهمشة، وثالثها ظهور قوى شعبية ومدنية كانت كامنة أو كانت جنينية، ورابعها حال الذهول التي فاجأت أصحاب نظرية الثبات حتى الجمود، أو الاستمرار على الاستقرار، وخامسها اختلاط المفاهيم بشأن الاصلاح الديمقراطي ومنابعه، ما بين الاصلاح الوطني والاصلاح الأجنبي!
قبل عام لم يكن أحد يتخيل ان يتم تعديل المادة 76 من الدستور القائم منذ العام ،1971 لاجراء انتخابات عامة مباشرة لرئيس الجمهورية بين أكثر من متنافسين، بصرف النظر عن اعتراضنا على القيود أو الضوابط المشددة التي وضعت على شروط الترشيح لهذا المنصب الأهم، فقد كان الحاكم دوما ينصب من قوى فوقية تعلو إرادة المصريين وتصادر حرياتهم في انتخاب رئيسهم أو ملكهم أو حاكمهم، تفرضه فرضا وغالبا من الخارج، اللهم إلا حالة محمدعلي الذي بايعه العلماء والفقهاء باسم شعب مصر!
قبل عام لم يكن أحد يتصور ان تمور شوارع العاصمة والمدن الكبرى شمالا وجنوبا، بمظاهرات شعبية عارمة تطالب بالاصلاح الديمقراطي الوطني، وترفع شعارات معادية للحكومة، وقد تعودت حكوماتنا على ادمان القدسية فاذا بهذه الحكومة تعامل المظاهرات برفق أحيانا وبعنف أحيانا، لكن الظاهرة قائمة ومستمرة تعبيرا عن تغيير حدث، ومطالبة بتغيير يجب ان يحدث.
قبل عام كان "الحوار - التنافس" في الساحة السياسية المصرية، قاصرا على الحكومة والحزب الوطني الحاكم من جهة، والاحزاب السياسية المعترف بها "19 حزبا" من جهة أخرى وكانت نجومية المعارضة قاصرة على ثلاثة أحزاب رئيسية هي الوفد الليبرالي، والمجتمع اليساري، والعربي الناصري، وغيرهم يتابع أو يبايع!
اليوم تقتحم قوى جديدة، ساحة الحراك السياسي والشعبي وبجرأة تحسب لها في النهاية، كما تحسب لهامش الحرية المحدود القائم، فإن كانت حركة "الاخوان المسلمين" مثلا، حركة قديمة "تأسست العام 1928 على يد الشيخ حسن البنا" أعادت طرح نفسها هذه الأيام كقوة قديمة تتجدد، بتجديد دعوتها والانخراط في العمل السياسي واختراق النقابات المهنية وبعض الاحزاب السياسية، ودخول البرلمان الحالي بسبعة عشر نائبا، والتظاهر العلني في الشارع للمرة الأولى بهذا السفور منذ عقود طويلة.
فإن الحركة المصرية من أجل التغيير والاصلاح "كفاية" تمثل على العكس قوة جديدة فعلا، نشأت عمليا تأسيسا على بيان وقعه نحو 300 من المثقفين المصريين متنوعي الانتماءات والاتجاهات، تطالب باصلاحات ديمقراطية وطنية وحقيقية، قبل ان يهب علينا اعصار "تسونامي" الأميركي ثم بسرعة شديدة تحولت الحركة من مجرد بيان مثقفين الى قوة تنظيمية وحركية نشيطة تنزل الى الشارع وتتظاهر ليلا ونهارا وتطور من أفكارها وأساليب عملها، وسط أسئلة بعضها معجب وبعضها الآخر متشكك.
وبالحيوية نفسها استردت النقابات المهنية ونوادي هيئات التدريس بالجامعات والقضاة كثيرا من حيوتها وعافيتها ومشاركتها في العمل العام، وفي المطالبة بالاصلاح الديمقراطي الوطني كسرا للحصار الحكومي المشدد الذي فرضته قوانين جائرة مثل القانون رقم 100 الشهير، الذي يستلب من هذه النقابات حريتها العامة.
ونحسب ان قوة اندفاع تيار التغيير والتجديد والاصلاح، ستزداد من الآن فصاعدا، وخصوصا بعد التعديلات المقترحة لتطوير قوانين مباشرة الحقوق السياسية، والاحزاب والانتخابات وبعد ممارسة أول تجربة لانتخاب الرئيس مباشرة بدلا من الاستثناءات المعروفة بسمعتها السيئة، الامر الذي يفتح الباب لظهور قوى جديدة أخرى سواء عبر احزاب سياسية أو تنظيمات المجتمع المدني الكثيرة.
قبل عام لم يكن كل ذلك متصورا، لكنه لم يأت نتيجة عام واحد، انما جاء عبر تراكمات كثيرة في الحراك السياسي والاجتماعي المصري، المعروف بقدرته على الاختراق والبناء المنظم والهادف الذي يصل احيانا الى درجة البطء فيثير الاستغراب وربما الاستياء، لكنه دائما يتحرك في لحظات تاريخية محددة، فيثور ويفور!
ولم يكن كل ذلك ليحدث الا في ظل متغيرات هائلة، حدثت في المجتمع، فعت به احيانا خطوات للأمام وعصفت به احيانا أخرى وأبرزها طبعا، الانقلاب الطبقي الاجتماعي، الذي اختلفت ايديولوجيته وأهدافه على مدى نصف قرن فقط، من مجتمع شبه رأسمالي قبل ثورة يوليو ،1952 كان معروفا بمجتمع النصف في المئة، الى مجتمع قوى الشعب العامل، وتحالف الفقراء من العمال والفلاحين ومجانية التعليم والاصلاح الزراعي والتمصير والتأميم، في ظل ثورة يوليو، ثم العودة مرة أخرى الآن الى مجتمع يطبق المنطق الرأسمالي، ويطلق حرية السوق ويبيع القطاع العام، ويضيف مجانية التعليم وحقوق محدودي الدخل، ويطلق الحرية لرجال الأعمال الكبار، ليس فقط في احتكار الاقتصاد ولكن ايضا في صناعة القرار.
وفي كل الاحوال، وفي ظل هذه المتغيرات والتقلبات نشأت وصعدت في مصر، قوى جديدة لها مطالب وأفكار ومصالح، بعضها ينتمي الى الطبقات العليا النافذة والثرية وبعضها الآخر ينتمي الى الطبقات الوسطى والفقيرة وهي الأكثر اتساعا ومعاناة وتمردا وهي التي أفرزت وتفرز اليوم تلك القوى السياسية الجديدة والمتجددة التي ترفع شعارات التغيير ومطالب الاصلاح الديمقراطي، وتتظاهر في الشارع وتخوض التحديات الكبرى سواء في مواجهة الحكومة، أو في مواجهة تكتلات أصحاب المصالح وقوى الضغط ورجال الاعمال أو في مواجهة التدخلات الأجنبية باسم فرض الاصلاح من الخارج، وهي في النهاية الممثل الجديد لمجتمع نصفه تحت سن العشرين عاما.
وهذا هو أحد أسرار مظاهر الحراك السياسي الاجتماعي الواسع، المعبر عن مجتمع كبير قديم يجدد نفسه بحيوية بالغة، وهو حراك يقوم على مصالح اجتماعية اقتصادية لثلاثين مليون فلاح، وعشرين مليون عامل، وخمسة عشر مليون موظف متوسط وصغير، انجبوا 18 مليون طالب في مراحل التعليم المختلفة، والكل يعاني ضغوط الازمة الاقتصادية وغلاء الاسعار وعبء البطالة ومظاهر الفساد القديمة والجديدة واحتكارات رجال الاعمال والمضاربين وسارقي المصارف ومهربي الاموال المنهوبة.
لذلك قلنا من البداية إن الامر يحتاج فعلا الى حكمة شديدة ورشد نافذ وعاقل لكي يدير هذا الحراك السياسي الاجتماعي المطالب بالتغيير والاصلاح بدلا من الاكتفاء بالنوايا الحسنة احيانا، أو بالمواجهة الأمنية احيانا أخرى وبدلا ايضا من الانتظار مكتوفي الايدي "تسونامي" الاميركي المصر على التدخل في أدق شئوننا!
خير الكلام
يقول الإمام علي "ع":
"لا تنظر إلى من قال، وانظر إلى ما قال"
إقرأ أيضا لـ "صلاح الدين حافظ"العدد 992 - الثلثاء 24 مايو 2005م الموافق 15 ربيع الثاني 1426هـ