تعقيبا على ما نشر في بعض الصحف المحلية بشأن تصريح رئيس الجمارك والموانئ والمناطق الحرة رئيس لجنة خصخصة الموانئ، وتحت "مانشيت" عريض: "الجمارك" تقاعد 600 موظف نهاية العام، يسرنا إيضاح بعض النقاط المهمة ليس لموظفي الموانئ فقط، بل للرأي العام أيضا، حتى يكون الجميع على بينة بخصوص هذا الموضوع.
إن الخصخصة باعتبارها مشروعا تعتبر ضارة جدا لموظفي الحكومة، على أساس أن نظام التقاعد المبكر الإلزامي المربوط بالخصخصة يعتبر أداة سحق لمستقبل الموظف وعائلته، وهو باب خروج يقذف بالموظف إلى ساحة البطالة الموجودة التي لا تتسع أصلا لمزيد من العاطلين.
إن التعبير القائل "إن نظام التقاعد المبكر الإلزامي الذي لا يوجد أصلا له مثيل خارج مياه المملكة الإقليمية يعتبر من أسخى الأنظمة في العالم"، هو تعبير يراد به ذر الرماد في العيون، وإلا فما هي الاستفادة السحرية للسنوات العشر الافتراضية المضافة إلى سنوات خدمة الموظف الفعلية، والتي تعتبر زيادة دنانير قليلة إلى راتبه التقاعدي سيأكلها التضخم وغلاء المعيشة في أقل من سنتين، إذ إن الزيادة السنوية للمعاش التقاعدي لن تزيد على 3 في المئة بأي حال من الأحوال، بينما كان يتوقع أصلا أن يحصل على ترقيات أثناء إخلاصه واجتهاده بالعمل لحين حصوله على التقاعد الاعتيادي والذي قد يمتد إلى أكثر من عشرين عاما، ما يعني زيادة في راتبه، أو ربما تحصل نقلة نوعية في زيادة الرواتب خلال تلك الفترة، كما حصل في دولة خليجية شقيقة وقريبة لقلوبنا.
كما أن تصريحه بأن النظام المذكور سخي، وهو أساسا تحت المراجعة من قبل ثلاث جهات حكومية، يضعنا أمام علامة استفهام كبيرة تذكرنا بما نشر عن العيدية والتي كدنا أن نلمسها من كثرة التصاريح في الصحف المحلية، وإذا بها تصرف في دولة خليجية أخرى قريبة إلى قلوبنا أيضا.
إن التناقض الكبير في ذلك التصريح يأتي تأكيده بعد أن ذكر رئيس الجمارك أن التعويضات بحسب النظام المذكور لن تكون كافية بالنسبة إلى الموظفين الذين خدموا أقل من 25 عاما، وعليه فإن أسخى نظام فصل تعسفي حكومي في العالم لن يفي تعويضا لموظف أفنى أحلى سنوات عمره يخدم بجد وإخلاص لمدة 20 أو 25 عاما، مقابل معاش لا يفي أصلا بمتطلبات الحياة الصعبة التي نعيشها نظرا إلى الزيادة المستمرة في مستلزمات الحياة الأساسية وازدياد متطلبات الأبناء والراتب "محلك سر"، ما اضطر الجميع إلى الرزوح تحت جبل من الديون والالتزامات.
من حيث المبدأ، إذا نظرنا إلى التقاعد المبكر الإلزامي للموظفين الذين هم في بداية مشوارهم الحياتي والذين لم يلتزموا حتى الآن بأسر وأبناء وقروض، ولم يدخلوا متاهة الالتزامات الشخصية وهم في مقتبل العمر، فإن ظروفهم مختلفة تماما عن الموظفين الذين خدموا ما يقارب العشرين عاما أقل أو أكثر، ودخل في التزاماته الحياتية من أوسع أبوابها. والسؤال هنا: من سيصرف عليه وعلى أسرته ويسدد كل التزاماته وديونه، وذلك عندما يتم فصله إلزاميا وإعطاؤه خمسين أو ستين في المئة من راتبه؟ إن الموظف الآن وبكامل راتبه لا يتمكن من تسيير التزاماته إلا بدعم مباشر من ديون وقروض، فكيف - بالله عليكم - سيسيرها بنصف راتبه لمدة قد تمتد إلى أكثر من عشرين سنة مقبلة؟!
ولو عرفنا أن غالبيتهم لديهم أولاد أو بنات في المدارس أو الجامعات، ويقوم هو بالصرف عليهم حتى انتهائهم من المدارس والجامعات وحصولهم على وظيفة، فكيف سيكون حالهم عند فصل عائلهم الوحيد؟ وكيف سيستمرون في حياتهم المعيشية المقبلة؟! ومن سيبني الوطن ومن سيرتقي به في ظل هذه المشروعات غير المدروسة؟
إن المآسي التي ستنتج بسبب الخصخصة هذه ونظام التقاعد الإلزامي المربوط بها لا يمكن حتى تخيلها، وهو الأمر الذي حاولنا - نحن أعضاء مجلس إدارة نقابة عمال الموانئ البحرية - إيصالها إلى ذوي الاختصاص وعبر لقاءات شخصية معهم، ولكن للأسف الشديد قوبلنا بتجاهل تام... كأنهم لا يعلمون ما سيؤول إليه حال الموظف عند فصله، وهم بالتأكيد على علم تام به ولكن إصرارهم العجيب الخارج عن المنطق لتمرير هذا النظام لا نجد له تفسيرا.
إننا إذا نظرنا إلى حال ما آله إليه مصير الموظفين والعمال ممن طبق عليهم هذا النظام في كل من وزارة المواصلات وشئون البلديات لهو واضح كل الوضوح من ضرر بالغ لهم ولمن يعيلون وهم يعانون الآن الأمرين، الأول ضعف الراتب التقاعدي، والثاني ازدياد المسئوليات الأسرية، والدليل على ذلك أن المرسوم بقانون رقم "41" للعام 2002م بشأن سياسات وضوابط الخصخصة، المادة 5 تنص على أن "يراعى التدرج في التخصيص بما يحقق استيعاب المتغيرات الاقتصادية والاجتماعية لتحقيق الضمان والأمن الاجتماعي"، لم يتم تطبيقه في أي من القطاعات الحكومية التي خصصت وكانت نتائجها سيئة جدا على من طبق عليهم هذا النظام.
كما أن المادة "7" من نظام الخدمة المدنية رقم "202" تنص على أن "يودع العائد المالي الناتج عن عمليات الخصخصة في الاحتياط العام للدولة، على أن يستخدم بصفة خاصة في الأغراض الآتية، ومنها: إعادة تأهيل العاملين في المشروعات التي تمت خصخصتها، وتسوية حقوقهم المالية". "وهذه المادة لم يتم تطبيقها أيضا وضاعت الحقوق المالية لمن طبق عليهم النظام".
ونود الإشارة إلى أن من أهم أهداف مشروع الخصخصة التي أقرها النظام، هي:
أ - التطور السريع للمشروعات المختلفة.
ب - التنويع والتوسع لهذه المشروعات.
ج - تنشيط سوق العمل وإيجاد فرص عمل جديدة.
د - تفعيل الدور الرقابي والتنفيذي.
السؤال هو: هل تم تطبيق هذه الأهداف على القطاعات التي خصخصت؟ ومن المسئول عن ذلك؟ وأين النتيجة؟ لقد مر أكثر من عامين على خصخصة بعض القطاعات، ولكن لا نتيجة تذكر ولا مسئول يصرح!
ولو رجعنا إلى أربعة أعوام ماضية لوجدنا أن الموافقة الشعبية للتوقيع من قبل جميع العاملين في الموانئ البحرية وجميع العاملين بالقطاعات الحكومية المختلفة على التحديث الدستوري في ميثاق العمل الوطني في فبراير/ شباط 2001 يؤكد مدى حرص الجميع على تقدم وازدهار المملكة في ظل مسيرة الإصلاح والشفافية التي تشهدها البلاد لتغيير القوانين والقرارات القديمة أو تعديلها بما يناسب الحياة العصرية للشعب البحريني ليستمر في تطوره ورقيه رفعة لهذا البلد المعطاء، وذلك في ظل حماية الحقوق الأساسية للمواطنين وخصوصا بعد تصديق وإقرار الملك للمحكمة الدستورية في البلاد، والتي تعطي لكل مواطن الحق في الاعتراض لدى هذه المحكمة على أي قانون يراه غير دستوري، بما يمنح المواطن الصلاحية الكاملة لحماية حقوقه أيا كان نوعها، وذلك العمل على إزالة أشكال التمييز العنصرية، والتمييز ضد المرأة، وكذلك تحريم التعذيب النفسي والاجتماعي وحماية حقوق الطفل، وما إلى ذلك من معاهدات دولية، ولا ننس أهمها، وهي الاتفاقيان الدوليان رقم 87 - 98 بشأن الحقوق والحريات النقابية والمفاوضة الجماعية، كل هذه المعاهدات والاتفاقات الإقليمية والدولية وقعت لصيانة وحماية الحقوق الأساسية للمواطنين والدفاع عن حرياتهم وقيمهم ومصالحهم، وكان ذلك من فعل الملك المفدى حفظه الله لترسيخ دعائم الديمقراطية والعدل، وجعل الشفافية ومبدأ المساواة وعدم التمييز أهم تلك الركائز، كل هذا أصبح هباء منثورا في ظل مشروع الخصخصة المطبق حاليا.
إن الحوار البناء والجاد لحماية الحقوق والحريات بلا أدنى تمييز أو تفضيل من خلال تطبيق مبدأ الشفافية، لهو من أروع الأمثلة التي يحتذى بها، وأروع النماذج التي يثنى عليها ويشاد بها في بلادنا لحماية حقوق الإنسان، ودعم الديمقراطية في هذا العهد الإصلاحي المضيء والذي تعهده ملك البلاد المفدى برعايته المستمرة وعنايته الفائقة بكل تفاصيلها وحذافيرها.
كما نود الإشارة إلى أنه تمت مناقشة بعض الأمور المهمة والمتعلقة بمشروع الخصخصة مع استشاريين وحقوقيين ونواب من قبل لجان عمالية ونقابات، وذلك بإشراف الاتحاد العام لنقابات عمال البحرين، وقد خرج الجميع بأسئلة واستفسارات رأينا توجيهها إلى الرأي العام لعل وعسى أن نجد الإجابة الشافية التي لم نجدها عندما طرقنا أبواب القطاعات الحكومية المتجهة إلى الخصخصة، نذكر من أهمها:
1- ضرورة وضع الحكومة تصورا واضحا ودقيقا يبين خطة وسياسة الدولة في الخصخصة للعشرين عاما المقبلة على الأقل، إذ إن العقود المبرمة مع الشركات يصل مداها إلى 25 عاما.
2- معرفة القطاعات التي ستخصص مسبقا وكذلك مبررات هذه الخصخصة، وبمدة كافية حتى يتم حصر الإيجابيات والسلبيات.
3- ما الضمانات والحقوق التي ستتبعها الحكومة لحماية الموظف المواطن جراء المساوئ المترتبة لخصخصة هذه القطاعات؟
4- الشفافية والوضوح يجب أن يصاحبا عملية الخصخصة في كل مراحلها لإعطائها صدقية وثقة أكبر للجهات والأطراف المشاركة.
5- العدل والمساواة وتكافؤ الفرص ومراعاة المصلحة العامة.
6- عدم عقد الصفقات وتوقيع الاتفاقات في الخفاء حتى لا يفاجأ بها المجتمع أفرادا ومؤسسات، وتضر بالمصلحة العامة.
7- ضمان حقوق ومكتسبات العمال وخصوصا من جهة الحكومة، حتى لا يزداد العاطلون وتزداد نسبة البطالة في البلد.
8- عدم الإضرار بالمصالح الوطنية عند إجراء الخصخصة.
9- تطبيق مبدأ الرقابة الإدارية والمالية وتطبيق مبدأ الشفافية والعدل وحسن التنظيم.
وإننا عبر هذا النداء، نناشد المعنيين في الدولة التدخل شخصيا لرفع الضرر عن أبنائهم الأوفياء، أبناء هذه المملكة الغالية موظفي الموانئ، ونحن على ثقة تامة وبإيمان خالص بالله ثم بهم، أنهم لن يقبلوا أن تتشتت عوائل بأسرها، وأن يفقد عقله من يفقد منهم، ويسجن من يسجن منهم بسبب عجزه عن تسديد ديونه، وتهدم من تهدم بيوتهم على رؤوس عائلهم، ويسرح أطفالهم من مدارسهم بسبب ضعف الراتب التقاعدي، وهذا قليل مما سيحصل من مآس تشمل الآلاف من الموظفين وعائلاتهم، ناهيك عن ازدياد عدد العاطلين وارتفاع نسبة البطالة في البلد، وما سيؤدي إليه من مشكلات اجتماعية وأخلاقية لا تحمد عقباها.
نقابة عمال الموانئ البحرية
بدر علي الصديقي
العدد 991 - الإثنين 23 مايو 2005م الموافق 14 ربيع الثاني 1426هـ