العدد 989 - السبت 21 مايو 2005م الموافق 12 ربيع الثاني 1426هـ

عولمة متوحشة

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

منذ ستينات القرن الماضي تشكلت منظومات إقليمية ودولية أخذت تطرح سياسات اقتصادية تتجاوز الحدود المتعارف عليها بين الأمم. هذه المنظومات كانت موجودة سابقا على صعيد التنظيمات السياسية ذات الطابع الأممي إلا أن دورها اقتصر على الايديولوجيا والتنظير للمفاهيم الجديدة التي تتناول القضايا الإنسانية المشتركة من منظور دولي. فتلك التنظيمات كانت أشبه بالتيارات الفكرية التي تطرح شعارات وفق تصورات مثالية، الأمر الذي جعلها أقرب إلى المنابر الدعاوية وبعيدة عن مخاطبة المصالح وما تعنيه من ضرورات قانونية وحاجات اقتصادية.

الفكر الأممي ليس جديدا على العالم. والرؤية العالمية لتطور الأمم لم تكن نتاج تصورات حديثة أملتها "الحداثة". فالعالمية منهج تطوري افتقد إلى رؤية واقعية في حالاته السابقة، ثم بدأ يتخذ معناه حين تدولت العلاقات بين البشر وتحديدا على صعيد التجارة والمواصلات والاتصالات، وهو ما يسمى في أيامنا "العولمة".

العولمة ليست بعيدة عن العالمية إلا أنها اتخذت في الآونة الأخيرة بعدا سياسيا ارتبط إلى حد ما بالمصالح الأميركية واستراتيجية الهيمنة الامبراطورية التي تتبعها واشنطن في علاقاتها الدولية أو في حروبها العدوانية على دول تعتبر مستقلة وفق المعايير التي تتبعها مواثيق الأمم المتحدة.

السياسة الهجومية الأميركية تتحمل مسئولية أساسية في إثارة حركات مقاومة أو ممانعة لتلك "العولمة" التي تلونت بنزعة امبراطورية. فالمشكلة ليست في "العولمة" أو تطور العلاقات البشرية نحو "العالمية"، أو ما يسمى بلغة القانون التدويل. وانما المشكلة تكمن في محاولة واشنطن مصادرة التطور والسيطرة على مداخله ومخارجه بقصد احتواء تفاعلاته الايجابية، واخضاعها لنزعة "امبراطورية" تكرس الهيمنة الأميركية على اقتصادات الدول وثرواتها. والصراع الذي تشهده الكثير من الساحات والعواصم بين "العولمة" في شكلها الأميركي والتيارات المضادة لها هي صورة مصغرة عن نزعه الرفض الأممي للسيطرة الامبراطورية.

المشكلة إذا ليست بين "العولمة" وخصومها بقدر ما هي بين "الامبراطورية" الجديدة وخصومها. والصراع في جوهره ليس ضد العالمية في تعبيراتها الدولية وانما ضد سياسة تلك "الامبراطورية" التي تحاول وراثة تركة الاتحاد السوفياتي ودول العالم الثالث في سياق تعسفي يفرض شروطه ونموذجه من دون اعتبار لحيثيات التطور واختلاف انماطه ودرجات نموه واختلاف ثقافاته بين منطقة وأخرى.

منذ ستينات القرن الماضي أخذت منظومات إقليمية ودولية تتبنى سياسات اقتصادية قارية "ما فوق قومية" أسست تكتلات تألفت من تجمعات وشركات ومصارف "قومية" تعتمد على السوق الدولية في تجارتها وإنتاجها، وقادت هذه التكتلات القارية "شركات متعددة الجنسية" سياسات عالمية ضغطت على دولها لتغيير أنظمتها الاقتصادية لتتناسب مع مصالحها وشروطها. وبسبب نمو العلاقات الدولية في سياق "كوني" استجابت بعض الدول لشروط الشركات المتعددة الجنسية "تكتلات قارية وعالمية"، ومالت نحو تعديل قوانينها لتتكيف مع شروط تلك التجمعات الاقتصادية الكبرى.

ومنذ سبعينات القرن الماضي بدأت الكثير من الدول الأوروبية السير باتجاه "الخصخصة" وتفكيك القطاع العام والتخفيف من تدخل الدولة في توجيه الاقتصاد. وترادف الاتجاه القانوني مع سياسة متشددة ضد النقابات والحركات العمالية، فبدأت الحكومات تعتمد منهج القضم من مكاسب حققتها الطبقة الوسطى على صعيد التأمينات والضمانات الاجتماعية والصحية وغيرها من إنجازات تحققت خلال فترة ممتدة من النضالات.

وفي الثمانينات شهد العالم عودة لتلك الرأسمالية "المتوحشة" التي لا ترى أمامها سوى الربح والربحية، ولا تكترث بالإنسان وحقه في العمل وما يتطلبه من حقوق اجتماعية توفر له الرفاهية والراحة وعدم الخوف على مستقبله وشيخوخته. وفي التسعينات تزايد توحش الرأسمالية وجشعها حين تساقط المعسكر الاشتراكي وانهار سقف الاتحاد السوفياتي على كل تلك النظريات العالمية المثالية. فالعولمة في نزعتها الامبراطورية الأميركية نجحت في هزيمة العالمية في رؤيتها الإنسانية للتطور الكوني. وبما ان الجشع لا حدود له بدأ العالم يشهد اليوم انساقا ايديولوجية تتمثل في منتديات وسياسات وضغوط وحروب وأنشطة... تعكس في النهاية هذا الشكل الاقتصادي في التطور المشوه "المتوحش" للرأسمالية الامبراطورية في القرن الجاري

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 989 - السبت 21 مايو 2005م الموافق 12 ربيع الثاني 1426هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً