العدد 985 - الثلثاء 17 مايو 2005م الموافق 08 ربيع الثاني 1426هـ

صعوبات فن الحكم أو ممارسة مهنة الحاكم

عبدالهادي بوطالب comments [at] alwasatnews.com

خلال الخمس عشرة سنة التي قضيتها في رحاب جامعة الملك محمد الخامس بالرباط، وجامعة الملك الحسن الثاني بالدار البيضاء أستاذا محاضرا في القانون ومادتي القانون الدستوري والمؤسسات السياسية، ومادة النظم السياسية في العالم الثالث، واجهت كزملائي مشكلة تعريف الحكم بما يحتضنه مفهومه من أنواع وأشكال تـزاوج بين الحكم الفردي المطلق المشخص، والحكم الديمقراطي حكم المؤسسات المنبثـقة عن صناديق الاقتراع وإرادة الشعب، مرورا بأنواع أخرى من أنواع الحكم التي لا يضبطها ضابط ولا تحصرها قاعدة. ومنها حكم ما يطلق عليه "فعل الحاكم أو الأمير"، أو فعل الهوى، أي فعل الحاكم ما يهواه ويشتهيه. ومما يدخل في البحث عن تعريف محدد للحكم التساؤل المطروح أهو علم أم فن ؟ بل سماه الملك الحسن الثاني في مذكراته "حرفة أو مهنة الملك". وكل ذلك يعني أن للتعاطي مع الحكم شروطا وقواعد ومحددات تضبطه ويجب على الحاكم أن يخضع لها ليكون حكمه سليما وأداؤه متقنا ومقبولا. يسـمى الحكم "بوفوار" في الفرنسية "pouvoir" أو"Power" بالإنجليزية، أي القدرة: القدرة على الفعل، والقدرة على اتخاذ القرار، والقدرة على ممارسة المبادرة. وقد تـمسك يد واحدة زمام الحكم فلا يكون للحاكم شريك، أو تكون القدرة على الفعل مشاعة بين إرادات. وهذا هو حكم المؤسسات الذي تتلاقى على ممارسة حكم دولة الحق والقانون. ونعيش منذ مطلع العام الجاري نوعا جديدا من الحكم لم يتقدم له نظير أو شبيه. هو قدرة الشارع على صنع القرار السياسي رغما على إرادة الحاكم، ومن دون أن يطرح مشروع هذا القرار للتداول في المجالس المنتخبة. وهي ثورة جديدة في مجال الحكم اختطف فيها الشارع القدرة على الفعل من أيدي الحاكمين. وتـمارس هذه القدرة للزحف على فضاء حكم استبدادي أو نصف "أو شبه" ديمقراطي، أو ما يمكن أن نسميه ديمقراطية شكلية. وعلى هذا النوع الأول من الديمقراطية "التي تبقى في جميع أشكالها حكم الشعب" أطلقت في مقال سابق اسم "ديمقراطية الشارع"، الشارع الذي تلتقي على ساحاته قوات شعبية غير مؤطرة في حزب أو هيئة، ولا تعمل في الوزارات والإدارات، وإنما تستعرض عضلاتها عبر الشوارع لتحتج على واقعها، وتطالب بإصرار وصراخ بتغييره إلى واقع أفضل وأسعد، وتـجـمع على المطالبة بتسريع الانتقال من الحكم الفردي بجميع أشكاله إلى الحكم الديمقراطي بشكله الفريد: حكم إشاعة السلطة بين المؤسسات، ومساءلة سلطة الحكم، ومعاقبتها عند الاقتضاء. وكل ذلك يجري في نــطاق شعار التغيير وتداول السلطة، واختيار الحاكمين بالاقتراع العام: فلا تجديد لحاكم يريد أن يـخلد في الحكم، ولا توريث لابنه أو قريبه ليقتعدا مكانه على عرش الجمهورية. والحظوظ نفسها في ظل هذا الحكم متوافرة على السواء للمتنافسين على امتلاك السلطة. إن الشـارع بديمقراطيته هذه يضيف إلى قـيـم الديـمقـراطية - وما أكثرها! - قيمة جديدة ذات رأسين: أولهما لا وجود لمن يسمى بالحاكم المفرد، وإنما لمجموعة من العاملين في الحكم الخاضعين لسلطة الشعب. وثانيهما كيفما كان شكل النظام وسلطة الحاكم فإن سلطة الدولة وقوة القانون يعلوان سلطته، وتطولها المراقبة والمساءلة. وعليه أن يعمل في الشفافية والوضوح. لم يعد في هذه الديمقراطية الجديدة أثر لما كان يسمى "سر الدولة" أو سرية خلفيات قراراتها حفاظا على الصالح العام. كل ما في هذه الديمقراطية الجديدة يعمل في الشفافية والوضوح والشعب يوضع في صورة الحكم حتى لا يخفى على الشعب شيء. وكل ما يعمل فيه الحكم مطروح للتساؤل وقابل للنقاش. ولا أحد ولا مؤسسة تعلو سلطتها سلطة الحاكم الجديد الذي يحمل اسم القانون من دون نعت. المشاهدون للقنوات الفضائية يعيشون ديمقراطية الشارع حيثما حركوا في أي اتجاه زر الالتقاط، وخصوصا في الأقطار التي لا تحكمها الديمقراطية. وينقلك هذا الزر في اللحظة نفسها لتشاهد هذه الثورة مشخصة في رفع لافتات الاحتجاج والتنديدات، وترى الحناجر وهي ترسل صراخات الغضب، وتقف سلطات أمن الحاكمين عاجزة عن مواجهة المتظاهرين الذين يعربون عن ثورتهم بشكل حضاري لسبب واحد هو أن السلطة "او القدرة على الفعل" أصبحت في ملك الشارع الذي انتزعها من يد الحاكم. بعدما عاش العالم ثورة جورجيا وأوكرانيا مختلفة الألوان وثورة قيرغيزستان عشنا ثورة لبنان الذي أسقط فيها الشارع حكومة ذات غالبية في البرلمان: أسقطها بقدرته على إسقاطها. وفي مصر أصبحت هذه الثورة تـتـناول على مائدة الشارع في ثلاث وجبات في اليوم. وفي سورية التي كان التظاهر فيها محرما أصبحنا نرى تظاهرات الاحتجاج تمضي على استحياء وكأنما يضع الشارع قدرة السلطة في امتحان عسير. وفي المغرب أصبح الترخيص للمسيرات والتظاهرات والوقفات والاعتصامات القاعدة التي لا يوجد لها استـثـناء. وفي البحرين يتظاهر الشارع ويرفع لافتات الإصلاح الدستوري. وفي موريتانيا ينزل الشعب ليتحدى الحكومة التي استقبلت وزير خارجية "إسرائيل"، ويحول المظاهرة إلى المطالبة بقطع العلاقات معها. والقائمة طويلة. وكلها شاهدة على انتقال القدرة على الفعل من يد الحكم إلى ديمقراطية الشارع. فـما يعني ذلك؟ هذه الثورة السلمية التي تراقبها سلطات الأمن من دون أن تتدخل "إلا نادرا" أهي ظاهرة صحة أم ظاهـرة مرض وبائي خطير؟ وهل الاكتفاء بمراقبتها عن بعد من لدن الحاكمين ظاهرة نضج ووعي بأن لا فائدة في السباحة ضد التيار؟ يمكن الجواب على السؤالين بأن فعل الشارع وغيبة رد الفعل عند الحاكمين ظاهرة صحة ونضج ووعي عند الجانبين: الشعوب المعنية المدافعة عن قضايا عادلة بأسلوب سلمي حضاري بلغ بها النضج إلى حد التحكم في فعلها. إنها تمارس مهنة الحكم بإتقان ومهارة احترافية. والحاكمون بلغ بهم النضج إلى حد فهمهم أحقية ما تطالب به شعوبهم، وهذا مؤشر إيجابي للالتقاء في خانة التفاهم. لقد كان الجنرال "ديغول" - عندما حكم فرنسا في ظروف الانتقال من الحرب إلى السلام - يقول للشعب في خطبه: "نعم لقد فهمتكم". واشتهر بهذه المقولة لكثرة ما رددها في خطابه. والبداية في كل حوار مثمر بين الشعب وقيادته هو استعداد كل منهما لفهم الآخر. الخطوة الأساسية على أرضية الحوار هي التقاء المتحاورين على ضرورة تسريع الحوار لتسريع الإصلاح. وهذه خطوة مطلوب من الحاكمين أن يقوموا بها. فمن يظن منهم أن قضية الإصلاح قضية وقت وفي حاجة إلى المزيد من التفكير لتحقيق الإصلاح، أو يراهن على أن الإصلاح لا يتحقق بسرعة حتى لا يكون مرتجلا أو يولد مجهضا، هؤلاء يمكن القول عنهم إنهم لم يفهموا شعوبهم التي هي في عجلة من أمر الإصلاح، ويعتبر التباطؤ فيه والتسويف لتحقيقه تهربا منه أو هروبا إلى الأمام. ولا يزيدهم ذلك إلا سخطا ونقمة على قادتهم. إن تمتيع المرأة بحقوقها السياسية "مثلا" لم يعد موضوع جدال ولا حتى مجرد تساؤل. ومن يعارض في ذلك باسم الدين، لا يفهم الدين الذي ساوى بين الرجال والنساء. وقد حسم الحديث الشريف النزاع حول الموضوع بقوله: "النساء شقائق الرجال في الأحكام". ومن يريدون الاقتصار على الذكور في الانتخابات ويقولون إن هذه هي ديمقراطيتنا الملائمة لخصوصيتنا، عليهم أن يفهموا أنهم إنما يشطرون الديمقراطية إلى شطرين، ويمارسون فقط نصفها، بينما هي كل لا يتجزأ. وفي عهد العولمة التي لا غنى عن الانخراط فيها طوعا أو كرها لم يعد يصح القول برفض الإصلاح بتعلة الحفاظ على الخصوصية، فلا شيء في النظام الديمقراطي العالمي يتعارض مع مبدأ الاحتفاظ بالخصوصية، لأن الإسلام جاء بأحكام عامة للشورى وأسس لها مجالس، وسن نظام بيعة الحاكم، وبايع النساء والرجال الرسول عليه السلام، وتولت المرأة في العهد النبوي والخلافة الراشدة الولاية التي استوى فيها الرجال والنساء. وجاء عنها في القرآن بصريح العبارة: "والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض" "التوبة: 71". ولم استغرب قط في حياتي شيئا مثلما استغربت من فتوى بعض الفقهاء في الكويت بمنع النساء من الترشيح والتصويت، ولا أدري مرجعيتهم الدينية في ذلك. القرن العشرون الماضي كان قرن تحرير الشعوب من استعمار الأجنبي. والقرن الواحد والعشرون هو بكل تأكيد قرن تحرير الشعوب من الاستبداد الداخلي ونقلها من الحكم المشخص إلى حكم المؤسسات التي تتقاسم السلط فيما بينها. والتغيير قادم ولا مرد له. فعلى النظم السياسية الحاكمة أن تحقق الإصلاح بتوافق مع شعوبها في جو السلم الاجتماعية والوفاق الوطني. أما إذا اختارت النظم السياسية الحاكمة رفض الإصلاح، أو التردد في القيام به، أو تراخت وتقاعست عن تسريعه، فستكون العاقبة وخيمة. ولن تصيب فيها الشعوب أية خسارة

العدد 985 - الثلثاء 17 مايو 2005م الموافق 08 ربيع الثاني 1426هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً