تخوض اللجنة المالية والاقتصادية في مجلس النواب معركة قوية، مع الحكومة، بشأن الموازنة العامة للدولة، لعامي 5002/6002. وتبدو اللجنة وحيدة في معركتها، فلا الكتل النيابية تتعامل على أنها لوبي ضاغط، ولا منظمات المجتمع المدني ترى أنها معنية، ولا الناس في وارد اعتبار الحدث قضية رأي عام. أما المعارضة، فهي بعيدة كل البعد عن أن تكون حتى "ربع حكومة ظل"، فيما اللجنة مقصرة على هذا الصعيد أيضا، وتفضل العمل لوحدها، دون خبراء يساعدونها، على رغم أن مكتب المجلس أقر تشغيل أكثر من خبير في اللجنة، يساهم في تحليل الأرقام وإعداد التقارير، ويبدو موقف كهذا غير مبرر البتة، وخصوصا أن أعضاء اللجنة المالية، وكذلك النواب الآخرون، في غالبيتهم، لا يستثمرون بدل المكتب "057 دينارا شهريا" في محله، إذ قليل منهم فتح مكتبا، ووظف مساعدين.
كما لا يعرف إلى أي مدى تدرك اللجنة أن الموازنة ليست أرقاما صماء، وإنما البرنامج الفعلي للحكومة للسنتين المقبلتين، لذلك يجدر التدقيق في الموازنة "رقابة مسبقة"، للتحقق من مدى سعيها للعمل وفق مبدأ التوزيع العادل للثروة بين المواطنين والمناطق، وقدرتها على خلق فرص عمل تدر رواتب مجزية، والمساهمة في تحسين أوضاع المواطنين المعيشية، وحل مشكلات الإسكان، والازدحام المروري، وكذلك حل القضايا السياسية والحقوقية العالقة، فكل هذه الخطوات تحتاج إلى رأس المال، بما في ذلك تنظيم الانتخابات البلدية والنيابية المقبلتين، التي على الحكومة أن تؤكد التزامها بها علنا، وأن يثبت ذلك في الموازنة، وأيضا درس صرف تعويضات لضحايا التعذيب، والمتضررين من حوادث التسعينات، وزيادة الرواتب، وإقرار الضمان الاجتماعي، وإصلاحات سوق العمل... وغيرها.
ومع ذلك، ففي الفترة الأخيرة، ظهرت اللجنة المالية، التي يترأسها جهاد بوكمال، على أنها ذات موقف غير رخو، بل وصلب أحيانا، تعطي انطباعا بأنها تعي المصلحة العامة، وتدرك خطورة إقرار الموازنة دون درسها بشكل كاف. وربما كان مفاجئا للمتابعين، وللنواب أنفسهم، بما في ذلك أعضاء اللجنة المالية، الصورة التي برز بها رئيسها بوكمال، حين خرج منافحا بقوة عن مواقف اللجنة، يوزع الأدوار بين أعضائها، بما في ذلك الإدلاء بتصريحات بشأن الملف الشائك المتعلق بالخلاف بشأن إيرادات شركة نفط البحرين "بابكو"، وهي التصريحات التي شملت الصحف جميعها، وتناوب عليها جاسم عبدالعال وعيسى أبوالفتح وآخرون، وبوكمال نفسه، الذي لوح في أحد تصريحاته اللافتة برفض الموازنة، إذا أصرت "بابكو" على عدم إدراج 002 مليون دينار ضمن الإيرادات النفطية.
وتذكر مصادر مطلعة أن بوكمال بدا مختلفا مع تسلمه منصب الرئاسة مطلع الدور التشريعي الحالي، وخصوصا مع انطلاق مناقشات الموازنة، فهو أظهر إلماما واسعا بالموضوعات المطروقة، وخبرة جيدة في طرق التفاوض، تزيدها رسوخا كياسته، وقدرته على ضبط النفس، وحسه الإنساني.
وهو يدير الاجتماعات مع الجهات الرسمية بشكل حاسم، وفي بدايتها يسأل ممثلي الوزارات إن كانوا أصحاب قرار، فإن لم يكونوا كذلك يطلب إليهم مغادرة الاجتماعات ليحضر ممثل آخر يكون قادرا على التوصل إلى توافق بشأن الأمور التي قد تكون محل خلاف، سواء تعلق الأمر بخفض أو زيادة في الموازنة، أو بأمور أخرى.
وربما هذه دعوة، للمتابعين والمعارضين وعموم الناس، لعدم إهمال الفوارق بين النواب المحافظين، الذين يصنف جهاد بوكمال ضمن قائمتهم، ذلك أن الصورة النمطية المأخوذة عنهم أنهم يسيرون مع الحكومة أينما سارت، في كل الموضوعات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والحقوقية. والواقع إن ذلك ما يحتاج إلى مراجعة، فطالما أظهر نواب محافظون مواقف تستدعي الإشادة، مع التسجيل هنا بأنه تظل القضايا الحقوقية والسياسية، أكثر تحديا، وهي عادة ما يتخذ بشأنها المحافظون مواقف ميالة إلى السلطات. أما الموضوعات الأخرى، وهي أيضا خطيرة ومهمة، فيمكن إحداث اختراقات ضد الحكومة، إذ أيد أكثر من نائب محافظ تشكيل لجنة تحقيق في التجاوزات بشأن غاز المعامير، وأخرى بشأن خليج توبلي.
يصنف بوكمال ضمن قائمة النواب المحافظين في المجلس المنتخب، وهو اختار ألا ينتمي إلى كتلة المستقلين "الحكومية أكثر من الحكومة"، أو أية كتلة أخرى. كما أنه رجل أعمال، وعضو في مجلس إدارة غرفة تجارة وصناعة البحرين، التي تتبنى في العادة مواقف سياسية ميالة للسلطات، فيما تكافؤها الأخيرة ببناء مقرها، بمبلغ يفوق خمسة ملايين دينار، وتبخل على الناس ببونس لن يكلفها أكثر ما يكلف بناء البناية. بيد أن بوكمال يتخذ بشأن الموازنة قرارات شجاعة، آخذا بالاعتبار ما يعتقد أنه مصالح للناس، ولا يستجيب لضغوط الحكومة، بل ويحاول التأثير عليها عبر عدة طرق.
لقد استثمر بوكمال وجماعته وسائل الإعلام المكتوب بشكل حصيف، في محاولة ترمي إلى تحقيق أكثر من هدف: أولها الضغط على السلطات للكشف عن المعلومات التفصيلية المتعلقة بإيرادات بابكو، في ظل ربحيتها المعلنة للمرة الأولى، وقبل ذلك المعلومات المتعلقة بأسباب زيادة المصروفات المتكررة بنسبة 12 في المئة... أما الهدف الآخر فهو التأكيد على أن الحكومة هي السبب الرئيسي في تأخر إقرار الموازنة، حين قدمتها متأخرة، ثم تلكأت في توفير المعلومات المطلوبة، مخالفة بذلك بنود الدستور.
ودون شك، فإن إحدى عوامل النجاح النسبي لبوكمال، هي محافظته، وأخذه في الاعتبار طبيعة الدولة التقليدية، التي تتجاهلها المعارضة أحيانا، متنكرة لواقع معاش.
تبقى الأسئلة الموجهة إلى بوكمال، هي الأسئلة ذاتها الموجهة إلى التجار، الذين يصنفون أنفسهم ضمن قائمة الليبراليين، والراغبين في الدخول في المعترك السياسي: كيف يفهم هؤلاء الليبرالية التي ينادون بها، هل هي ليبرالية سطحية محصورة بالحريات الشخصية؟ أم هي ليبرالية عميقة، تتبنى مفاهيم الحكم الصالح، والدفاع عن الحريات العامة، وحقوق الإنسان، وحق الناس في اتخاذ القرار، عبر مشاركتهم دورياـ في انتخاب ممثليهم في المؤسسة التشريعية، والمجالس التمثيلية الأخرى.
لم يظهر بوكمال، ولا التجار في غرفة التجارة حرصا على تثبيت قواعد ليبرالية واسعة، وهم يفضلون المشي خلف الحكومة في هكذا موضوعات، ويلتزمون بالسقف السياسي الحكومي، وهو ما أظن أنه يحتاج إلى مراجعة
العدد 982 - السبت 14 مايو 2005م الموافق 05 ربيع الثاني 1426هـ