أشار السيدمحمد حسين فضل الله، إلى وجود حركة غير صحية للسفراء الأجانب في لبنان وخصوصا السفير الأميركي بما يخرج نشاطهم عن المسار الدبلوماسي العام ويبعد إمكان الحوار اللبناني الداخلي في أجواء من الثقة والحميمية، متخوفا من أن يؤدي ذلك إلى مرحلة ضبابية قادمة. ودعا اللبنانيين إلى الجلوس لطاولة حوار أوسع وأرحب من الطاولات الرسمية وغير الرسمية للوصول إلى مرحلة غير مبنية على الهواجس والشقاق أو على العناوين الانتخابية والطائفية والسياسية.
جاء ذلك ردا على سؤال في ندوته الأسبوعية بشأن الموقف من النظام، وخصوصا النظام الطائفي، إذ قال:
"إن الإسلام جعل حفظ الأمن العام في سلم أولوياته، سواء فيما يتعلق بالأمن الشخصي للناس أو الأمن الصحي أو الاقتصادي... ومن هذا المنطلق وضع مجموعة من القواعد القانونية والتشريعية التي تكفل حفظ أمن الناس على اختلاف أديانهم ومعتقداتهم. وإذا دار الأمر بين الفوضى والفلتان الأمني وبين تسليم السلطة وتولي شئونها من قبل شخص غير مستجمع للشرائط الشرعية، فإن الإسلام ينحاز إلى الخيار الثاني، وفي هذا جاءت كلمة الإمام علي"ع": "حاكم غشوم خير من فتنة تدوم"، و"لابد للناس من أمير بر أو فاجر".
وانطلاقا من قاعدة حفظ النظام، فإننا نخرج الكثير من المستجدات على أساسها، وفيما يرتبط بالأخطار التي تتعرض لها البيئة أو غيرها من المخاطر التي تهدد الأمن الصحي للمواطن، فإننا نحرم كل ذلك انطلاقا من قاعدة حفظ النظام العام للناس، في الوقت الذي نعتقد أن مشروعية الحاكم تنطلق من قيامه بمسئولياته في حفظ النظام العام، وإلا فقد مبرر وجوده في سدة الحكم. وليس الإسلام بدعا في هذا الأمر، فكل الرسالات السماوية هدفت إلى إقامة نظام العدل والمساواة بين البشر، إذ إن الأنبياء لم يعملوا فقط لملء الفراغ الروحي في المجتمعات لأن هذا الجانب لم يكن لينفصل عن مجرى الحياة العامة، بل جاءوا برسالة الحياة وإحياء النفوس وعمران المجتمعات: "لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط" "الحديد: 52"، بكل ما يعنيه ذلك من بسط العدل من خلال السلطة الواعية الحكيمة المسئولة.
ومن هنا كانت دعواتنا المستمرة إلى المسلمين في بلاد الاغتراب وغيرها أن يحفظوا أمن المجتمعات التي استضافتهم وأحسنت إليهم على قاعدة "هل جزاء الإحسان إلا الإحسان" "الرحمن: 06"، وبذلك يساهمون في تقديم صورة صحيحة ونقية ومشرقة عن الإسلام الذي تعمل الدوائر الاستكبارية والصهيونية لتشويه صورته وتقديم المسلمين بصورة الأمة التي تعيش الفوضى وتسعى إلى الخروج على النظام، وتصنف المسلمين كعناصر مارقة وخارجة على الانتظام الإنساني العام. إن الفوضى بما تعنيه من اضطراب سياسي وأمني وعدم استقرار اقتصادي، هي حال نشاز ونقيض للقوانين والنظم التي أرستها الرسالات، والإسلام تشدد في العقوبات الرادعة في قانونه الجنائي إزاء كل من يخل بالنظام العام وينشر الرعب والإرهاب في النفوس والمجتمعات بما لم يتشدد به إزاء سائر الجنايات، معتبرا أن الإرهاب الأمني هو اعتداء صارخ على كل القيم البشرية والإنسانية، داعيا الناس جميعا إلى تحمل مسئولياتهم في مواجهة الذين يصنعون الفساد ويؤسسون للإرهاب بكل أشكاله.
وعلى هذا الأساس نريد للناس ألا يكونوا ضحية الإعلام الذي تحركه دوائر الاستكبار التي تدعي الحرص على محاربة الإرهاب في الوقت الذي تزرع بذور الإرهاب في العالم كله، وهي تغلف الفوضى التي تعممها بعناوين حفظ النظام، لأن الفوضى لا يمكن أن تكون خلاقة وبناءة، تماما كما أن الشر لا يمكن أن يكون خيرا. ولذلك فإن ما تقوم به أميركا في منطقتنا هو نشر لفوضى القتل والتدمير والإرهاب، وتوسيع دائرة الدمار البشري.
ونقول للذين يعملون على تقديم صورة مشوهة عن الإسلام، إن عليكم أن تدققوا في المفاهيم والتشريعات الإسلامية قبل أن تطلقوا الكلام جزافا، لأننا نزعم أن الإسلام لم يقدم قالبا جامدا أو صيغة وحيدة لنظام الحكم، بل قدم إلى جانب نظام الذمة الذي عمل الكثيرون على إخراجه عن سياقه وتشويه صورته، نظام المعاهدة الذي يعهد كل الناس على اختلاف ألوانهم وأديانهم ضمن نطاق المواطنية. وفي إطار احترامنا لصيغة التعاقد والتعاهد على أساس المواطنية الصالحة والكفاءة والمساواة بعيدا عن هويات الناس وانتماءاتهم، نعلن رفضنا للنظام الطائفي جملة وتفصيلا، لا لأنه يجعل من الظلم الداخلي حالا مستمرة فحسب، أو لأنه يقدم المنتمين إلى الطوائف والمذاهب كعشائر تنطلق في البداوة، بل لأنه يفسح أيضا في المجال لوجود ثغر سياسية كبرى تتسلل من خلالها المحاور الدولية والإقليمية لتمعن في إثارة المشكلات بين اللبنانيين وتعمل على تغليب فئة على أخرى، تأسيسا لفتن جديدة أو لتحقيق مصالحها مستغلة هشاشة الوضع التنظيمي للعائلات اللبنانية الذي تسبب به النظام الطائفي الذي ظل حريصا على أن يرش القلق في الوجدان اللبناني العام وفي نفوس أهل هذه الطائفة أو تلك.
وعليه نلاحظ الحركة غير الصحية للسفراء في لبنان وخصوصا السفير الأميركي، بما يخرج نشاطهم عن المسار الدبلوماسي العام ليتحولوا إلى حكام بالوكالة أو بالأصالة في بعض الأحيان، وليؤثروا في القرارات السياسية بما يبعد إمكان الحوار اللبناني الداخلي في أجواء من الثقة والحميمية، لأن هذه التدخلات والضغوط التي تغلف بغلاف تقديم نصائح هي أخطر مما يتصور الكثيرون، لأنها بدأت تزرع حالا من الشقاق الجديد بين اللبنانيين وتؤسس لمرحلة ضبابية قادمة في الوقت الذي نحتاج إلى شفافية عالية وصراحة كاملة واطمئنان كبير بيننا لنزع ألغام المرحلة وفتائل الفتنة التي يضرم أكثر من مسئول وغير مسئول نيرانها بتصريحاتهم ومواقفهم المثيرة.
إن على اللبنانيين، وبعد كل التجارب الصعبة التي حصدوا فيها ثمار ما زرعوا من تمهيد لتدخل محاور إقليمية بشكل نافر وسلبي في الشئون اللبنانية، وبعد تسليمهم بالرضا لسياسات أكثر من محور دولي في خصوصياتهم الداخلية، أن يجلسوا إلى طاولة حوار أوسع وأرحب من الطاولات والجلسات الرسمية وغير الرسمية التي اعتادوا عليها ليعملوا على استثمار الفرصة الجديدة التي بين أيديهم في النطاق الوطني العام، لا في سياق التأسيس لمرحلة جديدة من الشقاق المبني على الهواجس التي يعمل الكثيرون على تحريكها مجددا بعناوين انتخابية وسياسية وطائفية وما إلى ذلك... وندعو إلى استغلال هذه الفرصة المخاض للخروج منها بوفاق لبناني حقيقي ينتجه الحوار الموضوعي الذي ينطلق من التأسيس لدولة الإنسان على أساس المواطنية والكفاءة بما قد يقود إلى دولة المؤسسات التي تحدثت عنها النصوص وحاكت غيرها أضغان النفوس
العدد 980 - الخميس 12 مايو 2005م الموافق 03 ربيع الثاني 1426هـ